الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

لم نعرفه بعد!

حسن حميد

أعرفُ، وتعرفون، أيها الكرام، أننا وفي شهر تموز من كلّ عام، نعيش أخباراً كثيرة ومعرّشة تدور حول الأديب غسان كنفاني، وهذا الأمر بدهي لأن كنفاني أديب من رتبة عالية، ولأنّ أدبه له قيمة فنية قارّة، هي عالية وأكثر، ولكن أكثر الأخبار والأحاديث التي تدور حوله وحول مدوّنته الأدبية، هي أخبار وأحاديث مكرورة، ومعادة، ولا جديد فيها، وهذا ما يجعل المرء يعود خائباً من القراءة التي لا تضيف شيئاً ذا بال عن غسان ومدونته! فهل انتهينا حقّاً من معرفة غسان كنفاني الإنسان المعرفة الكلية، كما عرف الألمان غوته، أو كما عرف الروس بوشكين، أو كما عرف الإسبان سرفانتس؟ وهل انتهينا حقّاً من معرفة مدوّنته الأدبية كما عرف المصريون نجيب محفوظ؟! الإجابة الأكيدة هنا هي لا! ولا كبيرة لأننا ندور في كلّ سنة، وخلال شهر تموز، تموز فحسب، دورة العطشان الباحث عن الماء، في دائرة وسيعة لا تمدّنا إلا  بالمكرّر، والمعروف، والمدرك، والمتناقل إلى حدّ الرتابة عن غسان كنفاني ومدونته الأدبية! وهذا الأمر لا توصيف له سوى أنه خيبة أمل، لأننا نريد أن نعرف المزيد عن غسان كنفاني الذي رحل وهو في عمر السادسة والثلاثين فقط، وقد ترك لنا ثروة أدبية هائلة في قيمتها، وتخطيطات شديدة الأهمية حول ما نريده للثقافة والإبداع كي يكونا عليه حين قال في مقالاته ودراساته: فلسطين واحدة في ثقافتها رغم الانشطار المذهل لشعب فلسطين شطرين: داخل ومنفى! ومعرفة العدو / النقيض ضرورة حياتية، فلا انتصار على عدو لا تعرفه، وإن الإبداع الفلسطيني له مهمّة جليلة لأنه لوبانه عظيم من أجل استعادة المكان والتاريخ والهوية وتثبيت القيم، وإعلاء الروح الشعبي الذي عماده التقاليد والعادات والأعراف والتصورات التي تهب الفلسطيني الصفات، وأنّ لا هناءات حقيقية للفلسطيني ما دامت أرضه محتلة، وسطوة الاحتلال شرسة، وسجونه ومعتقلاته أكثر من المدارس.

بلى، حتى اليوم، لم نعرف غسان كنفاني المعرفة الحقّة؛ لقد رحل الكثير من رفاقه الذين عايشوه، ولم نجرؤ على سؤالهم عن غسان كنفاني الإنسان، رحل جورج حبش الذي جنّ فرحاً به وافتخر، ولم نسأله عن طقوس يوم واحد عاشه غسان كنفاني بقربه، ورحل وديع حداد من قبل، ولم نجرؤ على سؤاله عن سرّ العلاقة الحميمية التي جمعته بـ غسان كنفاني، ولماذا أحبّه، وما هي البهرة التي ميّزته عن الآخرين!.

أقول هذا، لأنني الآن فرغت من قراءة حوار مع السيدة آني كنفاني زوجة غسان كنفاني، وعدت من الحوار بخيبة أمل فظيعة وموجعة حقاً لأنني لم أقع على جديد! ولا على مدهش، ولا على مضيء، ولا على تفصيل لم نعرفه سابقاً عن غسان كنفاني. وهذه السيدة الزوجة عاشت معه سنوات ممتلئة بحضوره، وهي السنوات العشر التي كتب فيها مدونته الأدبية كلّها، وهي السنوات العشر الخصيبة في حياته والأكثر حضوراً.

ما من شيء جديد عن غسان كنفاني ترويه زوجته آني كنفاني، وأظنّ الأمر لا يتعلق بها، وإنما يتعلق بمن حاورها، الأسئلة عامّة، والإجابات عامّة، الأسئلة معروفة، والإجابات معروفة، وهذا ما أنتج خيبة أمل من النوع الفظيع والموجع.

لقد تمنيتُ أن أعرف تفاصيل يوم واحد من الحياة التي عاشها غسان كنفاني في بيته، ماذا كان يعمل، وكيف كتب، وماذا قرأ، أن أعرف الورق والأقلام والأحبار، وهل كان يراجع ما كتبه، أيّ أن نعرف طقوسه، وهل لها سطوة، أم كانت عفوية، ومن كان يزوره، وحول ماذا كانت حواراته تدور! وهل لدى زوجته مخطوطات له لم تُطبع بعد؟.

بلى، وبعد عمر طويل، سيرحل كلّ الذين عرفوا غسان كنفاني، أمّا نحن فسنعضّ أصابعنا طويلاً لأنّنا لم نعرف منهم الكثير عن غسان كنفاني الرابخ في قلوبنا معنى ثميناً.. آبداً.

hasanhamid55@yahoo.com