مجلة البعث الأسبوعية

أوكرانيا إلى بقايا دولة.. كيف ستكون الجغرافيا الأوروبية؟

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:

قبل أيام قليلة، قال نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري مدفيديف: إن أوكرانيا كدولة “نتيجة لكل ما يحدث قد تختفي من خارطة العالم”، مؤكداً أنها بعد انقلاب عام 2014، فقدت استقلالها وأصبحت تحت السيطرة المباشرة للغرب الجماعي، وبالتالي قد تفقد أوكرانيا بقايا سيادة الدولة و”تختفي من خارطة العالم”.

هذا التصريح الخطير دقّ ناقوس الخطر في بروكسل التي استقبلت إشارة من نوع آخر، مفادها أن الإصرار على توسّع “ناتو” شرقاً مع دعمه غير المحدود للنازيين الجدد في أوكرانيا، إنما يضع دول “ناتو” في مواجهة مباشرة مع روسيا، وبالتالي فإن الصراع العالمي سيأخذ منحى آخر، يؤدّي إلى موت جزء كبير من البشرية.

وجاء تصريح وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، بأن الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، بتسليحهما أوكرانيا، يرغبان في دفع روسيا إلى مواجهة أوروبا، ليلقي مزيداً من الخوف على الدول الأوروبية التي اعتقدت أنها تستطيع بالفعل التغلّب على روسيا في أوكرانيا.

ولكن معطيات الميدان تشير بوضوح إلى تقدّم روسي بطيء ومدروس على الأرض، الأمر الذي بدأت مراكز الأبحاث والدراسات الغربية تستشعره، وخاصة بعد فشل جميع التكهّنات الغربية بإمكانية خنق روسيا ودفعها إلى أن تجثو على ركبتيها أمام الغرب، بل على العكس أصبح الصمود الروسي في مواجهة هذه العقوبات يهدّد بانهيار الاقتصادات الأوروبية واحداً تلو الآخر، حيث بدأت الظواهر الاقتصادية التي خلّفتها العقوبات تعصف بالمجتمعات الأوروبية، وحتى الاقتصاد الألماني الذي يعدّ قاطرة النموّ الأوروبية أصبح يعيش تحت وطأة نقص الوقود بفعل الاعتماد شبه الكلي على موارد الطاقة الروسية، بل أصبح الخوف من امتداد الأزمة الأوكرانية إلى الشتاء هاجس معظم الدول الأوروبية التي اعتقدت أن هذه العقوبات ستنتهي قبل نهاية الصيف باستسلام الخصم الروسي.

ورغم التحذيرات الكثيرة الواردة من ضفّتي الأطلسي من أزمة اقتصادية عالمية تعصف بالغرب على خلفية عقوباته الجائرة على روسيا التي أدّت إلى أزمتي الطاقة والغذاء الحاليتين، غير أن هناك من لا يزال يكابر في هذا الإطار ويدّعي أن تراجع بعض الدول التي أبدت تحفّظها منذ البداية على هذه العقوبات، يعدّ بمنزلة خيانة عظمى للاتحاد وخرقاً لقواعده، وهذا بالضبط ما اتُّهم به رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان الذي أكد غير مرة أن العقوبات الغربية ضدّ روسيا غير فاعلة، وأن الأوروبيين جميعاً يركبون سيارة إطاراتها الأربعة مثقوبة، في إشارة إلى النتائج العكسية للعقوبات الغربية، فضلاً عن العجز عن تحقيق أيّ هدف من أهداف هذه العقوبات على الأرض.

ليس هذا فحسب، بل إنه تحدّث عن أن الاقتصاد الأوروبي أطلق النار على رئتيه وها هو يختنق الآن، ولم يكتفِ بإطلاق النار على قدميه.

ردّ الفعل الأوروبي هذا لم يكن مفاجئاً، إذ إن الدول الأوروبية لا تريد أن تعترف أن عقوباتها كانت خاطئة، وتحاول من خلال الأماني إقناع الجميع بجدوى هذه العقوبات، وحتى عندما تصرخ ألمانيا صاحبة الاقتصاد الأقوى في الاتحاد من وطأة نقص الغاز على خلفية توقف أنبوب الغاز الروسي “نورد ستريم” لأغراض الصيانة، تجد في الداخل الأوروبي من ينتقد مناشدتها لروسيا بإعادة ضخ الغاز.

والغريب في كل هذا الأمر أن الاتحاد الأوروبي بشنّه حرباً غير مسبوقة على الاقتصاد الروسي من خلال العقوبات، عاد ليتحدّث عن أن روسيا هي التي تشنّ مثل هذه الحرب، وهذا ما يؤكد أن الغرب لا يتمتع بأدنى مستوى من الواقعية في تعاطيه مع الأمور، إذ لا يزال يرفض إلى الآن الاعتراف بفشل سياساته إزاء روسيا.

فهذا الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير يتّهم روسيا بشنّ “حرب ضدّ وحدة أوروبا”، داعياً الدول الأوروبية إلى عدم الانقسام واستكمال العمل الذي بدأته هذه الدول وعدم تعريضه للتدمير، فبدلاً من الاعتراف بالخطأ الأوروبي المرتكب في هذا الشأن يتم تحميل روسيا تبعات حرب كان الغرب هو البادئ بها.

والحقيقة أن هذه العقوبات بالفعل بدأت تهدّد بتمزيق أوروبا على خلفية المواقف المتباينة وأحياناً المتناقضة بين هذه الدول إزاء روسيا نتيجة تفاوت حاجة هذه الدول إلى سوق الطاقة الروسي، إذ لا تخفي بعض الدول الأوروبية كهنغاريا والنمسا وإيطاليا وغيرها عجزها عن تأمين مورّد آخر للطاقة.

وتحت ضغط المشكلات الاقتصادية العديدة التي خلّفتها السياسات الغربية الفاشلة، راحت الدول الغربية تتقاذف الاتهامات فيما بينها حول مدى الوفاء لنظام العقوبات المفروض على روسيا، حتى إن أحد كبار كتاب صحيفة “إل باييس” الإسبانية، وهو برناردو دي ميغيل، ذكر أن بروكسل تخشى من احتمال أن تصبح إيطاليا بعد استقالة رئيس الوزراء ماريو دراغي “حصان طروادة” لروسيا في أوروبا.

ونقل الكاتب عن مصادر دبلوماسية أن إيطاليا أصبحت مؤخراً نقطة تجمّع لـ”نظريات محايدة” تلقي بظلال من الشك على موقف الاتحاد الأوروبي من الصراع في أوكرانيا، محذّراً من تحوّل إيطاليا إلى حلقة ضعيفة في برنامج العقوبات في أفضل الأحوال، وفي أسوأ الأحوال حصان طروادة في خدمة الرئيس الروسي.

ورغم أن مثل هذه الأصوات بدأت تظهر من خلف المحيط، وبالتحديد من واشنطن التي قادت قافلة العقوبات الغربية على روسيا، غير أن الحال في الولايات المتحدة لا يختلف كثيراً عن أوروبا، مع الاعتراف ببراغماتية واضحة تمارسها الإدارة الأمريكية فيما يخص هذا الموضوع، لأنها تركت في القوانين التي أصدرتها بشأن العقوبات موادّ معيّنة يمكن استخدامها للتراجع عنها في أيّ وقت، بينما قطعت أوروبا من خلال العقوبات كل حبال الوصل مع موسكو، ودمّرت جميع المراكب التي يمكن استخدامها في طريق العودة.

ويمكن أن يشكّل حديث السيناتور الأمريكي السابق عن ولاية فرجينيا والضابط المتقاعد في الجيش الأمريكي ريتشارد بلاك، عن أن واشنطن تقود نفسها إلى طريق مسدود عبر سياسة العقوبات ضد روسيا، مثالاً للواقعية التي تتمتع بها واشنطن بالقياس إلى بروكسل، حيث أكد أنه حان الوقت للتوقف عن اتهام بوتين في ارتفاع أسعار الوقود، لأن الكونغرس هو الذي فرض العقوبات على سوق الطاقة الروسي، وأن “سياسة الغرب هذه غير عقلانية ومدمّرة لأنها تؤدّي إلى اضطرابات اقتصادية ضخمة”.

وإذا علمنا أنه كلما تقدّم الزمن بالنسبة إلى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، يتم بالمقابل انضمام أقاليم جديدة من أوكرانيا إلى الاتحاد الروسي عبر تنظيم الاستفتاءات على خلفية الانتصار الروسي على الأرض، فضلاً عن أطماع الدول المجاورة بأراضي أوكرانيا “بولندا مثلاً”، فإننا نصبح أكثر قرباً من تحقّق مقولة ميدفيديف حول اختفاء أوكرانيا من الخارطة السياسية العالمية، وبالتالي تصبح ذراع روسيا العسكرية بنتيجة الحرب ممتدّة إلى وسط أوروبا، الأمر الذي يمثل أو يكاد تهديداً لوحدة الاتحاد الذي كان بالفعل يعدّ هذا البلد خط تماسٍ من جهة الشرق مع روسيا، ومن هنا تبدو مخاوف بروكسل من إمكانية تمزّق الاتحاد الأوروبي أمام المدّ الروسي مشروعة، ولكن هذا المدّ أتى بالفعل نتيجة سياسات بروكسل الخاطئة، وليس لأن موسكو ترغب حقيقة في التوسّع غرباً، كما يحاول بعض المسؤولين الغربيين تسويقه الآن.

وبالمحصلة، يطفو على السطح سؤال واحد: هل من الممكن أن تتغيّر الجغرافيا السياسية لأوروبا على خلفية هذا الصراع؟.

يبدو أن هذا صار نتيجة طبيعية للمقدّمات التي أحدثت في الفضاء الأوروبي شرخاً واسعاً، وليس هناك إلا القليل من الوقت حتى نرى سقوط دول ونشأة دول أخرى في أوروبا بمعزل عن الاتحاد أو بوجوده.