دراساتصحيفة البعث

الدولار سيف مسلط على رقاب العالم

عناية ناصر

غالباً ما تستخدمُ الولايات المتحدة بصفتها أقوى دولة في العالم، وبدعم من هيمنة الدولار، سيف أسعار الصرف لقمع تنمية البلدان الأخرى، ونهب ثروات العالم بأسره. ونظرة فاحصة على التاريخ، تُظهر كيف تسبّبت الهيمنة المالية الأمريكية بإحداث الفوضى في البلدان الأخرى.

منذ الستينيات إلى أوائل الثمانينيات، نما الاقتصاد الياباني بسرعة من خلال التجارة الدولية، بينما على الجانب الآخر من المحيط الهادئ، كانت الولايات المتحدة تواجه الركود التضخمي، والبطالة المرتفعة، والعجز التجاري الكبير. لقد كان صعود اليابان بمثابة جرس إنذار للولايات المتحدة، ولذلك بدأت في عام 1983 بالضغط على اليابان لتحرير سوقها المالي، وحثتها على تخفيف الأنظمة المالية وضوابط الصرف الأجنبي، الأمر الذي أدّى إلى إضعاف قدرة الحكومة اليابانية بالسيطرة على اقتصادها، وزاد في النهاية من اعتماد الين على الدولار مما مهّد الطريق للولايات المتحدة لتدمير الاقتصاد الياباني بسلاح أسعار الصرف.

ومن ثم جاءت الضربة القاضية “اتفاق بلازا” لعام 1985، الذي فرضت فيه الولايات المتحدة ارتفاع قيمة الين وانخفاض قيمة الدولار، وبين عامي 1985 و1988، تضاعف الين مقابل الدولار. ونظراً لأن الارتفاع السريع في قيمة الين أدى إلى تآكل القدرة التنافسية للصادرات اليابانية، قرّر البنك المركزي الياباني جذب رأس المال الأجنبي بأسعار فائدة منخفضة. ونتيجة لذلك، انخفضت تكاليف الاستثمار، ما تسبّب في تضخم الأصول وفقاعات اقتصادية خطيرة. كما أدى انفجار الفقاعات إلى “عقود ضائعة” في اليابان، حيث انخفض معدل النمو في اليابان إلى أدنى مستوياته، بل وصل إلى مستوى سالب. كما خسرت البورصة 270 تريليون ين خلال 10 أشهر، مما أدى إلى إغلاق الشركات، وفقدان الناس وظائفهم، وبدا المستقبل قاتماً.

لم يكن سيف سعر الصرف الأمريكي مسلطاً على رقبة اليابان فقط، فقد عانت تايلاند أيضاً من الضرر الذي يمكن أن يلحقه الجشع الأمريكي بدولة ذات سيادة. ونظراً لهيمنة الدولار الأمريكي على تسويات منازعات التجارة الدولية، كانت العملة التايلاندية “البات” مرتبطة بالدولار. ومنذ عام 1993، ارتفعت قيمة “البات” جنباً إلى جنب مع الدولار، ما قلّل هوامش ربح التصنيع وأضرّ بصادرات تايلاند. حتى خارج ميزان المدفوعات، لم يكن أمام الحكومة التايلاندية خيار سوى فتح سوق رأس المال في البلاد، وجذب الاستثمارات الأجنبية، حيث تدفقات رأس المال، بشكل رئيسي من الولايات المتحدة، أغرقت سوق العقارات وسوق الأسهم في تايلاند، وشكلت فقاعة خطيرة وشجّعت الانتهازية المتعطّشة للمال!.

في أوائل عام 1997، بدأ جورج سوروس وعدد قليل من المستثمرين الكبار بيع “البات” عن طريق الاقتراض، وبيعه بالدولار في سوق الصرف الأجنبي. ومن أجل استقرار سعر الصرف، كان على الحكومة التايلاندية استخدام احتياطياتها من العملات الأجنبية لشراء “البات”. في غضون شهرين، خسرت احتياطيات تايلاند 30 مليار دولار من العملات الأجنبية، وجفّ مخزون النقد الأجنبي تقريباً. ومع ذلك، انخفض سعر الصرف بين “البات” والدولار إلى أقل من 28:1، ولمدة شهر تقريباً، استمر “البات” التايلاندي في الانخفاض بنسبة 60 في المائة. وسرعان ما امتدّ الانخفاض إلى مناطق أوسع في آسيا، بما في ذلك الفلبين وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا، كما تمّ بيع عملات هذه الدول، مما أدى إلى انزلاق أسعار الصرف، حيث قضى الإعصار الهابط الذي اجتاح المنطقة على مليارات الدولارات، ونهب الثروة التي كان السكان المحليون يدخرونها منذ عقود.

وبمساواة الاستقلالية بالخيانة، لم تتردّد الولايات المتحدة في توجيه سيف سعر الصرف حتى في وجه حلفائها المقربين، واكتشفت المملكة المتحدة تلك التجربة المرّة بنفسها، وحتى علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة لم تستطع حمايتها من تلاعب الولايات المتحدة بأسعار الصرف الأجنبي. في عام 1979، أنشأت الدول الأوروبية “آلية سعر الصرف” الأوروبية، وربطت العملات الأوروبية بالمارك الألماني. بينما أنشأت آلية سعر الصرف سوقاً موحداً للعملات الأوروبية. ولشعورها بالتهديد، استغلت الولايات المتحدة تناقضات السياسة النقدية بين المملكة المتحدة وألمانيا لإجبار المملكة المتحدة على الانسحاب من نظام آلية سعر الصرف.

في تموز 1992، بدأت واشنطن بيع الجنيه الإسترليني بقوة، وبفعل الذعر في وسائل الإعلام. استمر الجنيه في الانخفاض، وبدأ عدم ثقة السوق في الجنيه بالتفاقم. حاولت الحكومة البريطانية شراء الجنيه الإسترليني لوقف انخفاض قيمته، ولكن دون جدوى. في 16 أيلول 1992، المعروف أيضاً باسم الأربعاء الأسود، انخفض سعر صرف الجنيه البريطاني إلى ما دون الحدّ الأدنى الذي حدّدته آلية سعر الصرف. استخدمت الحكومة البريطانية ما قيمته 26.9 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي، لكنها اضطرت أخيراً للإعلان عن انسحابها من آلية سعر الصرف. في غضون أيام قليلة، انخفض الجنيه بنسبة 16 في المائة مقابل المارك و26 في المائة مقابل الدولار.

وباعتبارها واحدة من أهم الاقتصادات في أوروبا، لم تتمكن المملكة المتحدة من الانضمام إلى آلية سعر الصرف، لأنه بدون الدعم القوي من المملكة المتحدة، بالكاد يمكن لليورو أن يهدّد هيمنة الدولار الأمريكي. بعد التدقيق الدقيق، كانت الولايات المتحدة تلوح بسيف سعر الصرف، حيث بات هذا السيف مسلطاً على رقاب العالم بأسره.