الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ارتطام الجهات

حسن حميد 

لعلنا كبرنا، أو لعلّ الزمن خمّش وجوهنا، وحنى ظهورنا، لأن الحنين يفتك بنا، ولأن الذواكر تقود خطانا وتحرسها، ومن وجوه هذا الحنين التي تبدو شارقة تلك الروح الإبداعية التي بدت ترسيماتٍ من جمال وألق ومعرفة وسحر خطّتها القصة القصيرة السورية في حقبة السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين المنصرم، حين كانت الأسماء القصصية نجوماً مضيئات في فضاء وسيع يشعّ بنورانيته حتى شمل مدوّنة القصة العربية كلّها، فبدت القصة القصيرة السورية جهةً تستدير نحوها الأعناقُ العاشقةُ لهذا الفن الصعب الذي يحتاج للمهارة والفطنة والحذق الآتي من عالم المجاز والمفاجأة.

أقول هذا، لأنني فرحت باسم قصصي مليء بالموهبة والثقافة، والضوء والرؤى، وأسطره محتشدات بالجمال البري المتفلت من كلّ أسر أو أحياز، يواصل كتابة القصة بخبرة أربعين سنة، إنه الأديب محمد باقي محمد الذي لفتت قصصه انتباه النقاد والقراء منذ صدور مجموعته القصصية الأولى (أغنية منتهية بالرصاص) لأنه كاتب بري يكتب قصصاً برية لم تتقفَ قصص أحدٍ، ولم تشابه في حراكها الفني أيّ تقنية ارتضاها كاتب غيره مركباً لنصوصه طلباً للتفرد والخصوصية، لقد أطلت قصصه وبدت من مرافئ قصصية بكر نائية، تماماً مثلما أطلّ محمد باقي محمد كمبدع من مكان بكر ناء أيضاً، فهو من الحسكة، دارة الخصوبة التاريخية، ودارة السوسيولوجية العفية، ودارة الآداب والفنون المستلّة من عالم أسطوري حفي بالمدهشات.

الآن، بين يدي مجموعة قصصية جديدة، لعلها السادسة أو السابعة، لـ محمد باقي محمد صادرة عن وزارة الثقافة، عنوانها (في ارتطام الجهات) تضمّ إحدى عشرة قصة، كلّ واحدة منها تحتاج إلى تلبث طويل لكثرة ما فيها من شواغل إبداعية لملمت تفاصيلها عينٌ شديدةُ الحساسية، وواعيةٌ ذهنيةٌ مهمومةٌ بالحياة الأكثر جمالاً وسعادة، وعبر تقنيات اغتنت بالتراسل الحميم بين أجناس الأدب من جهة والفنون الإنسانية من جهة أخرى.

يكتب محمد باقي محمد نصّه القصصي ليس من أجل رواية الأحداث، ولا من أجل معرفة الأخبار والخواتيم، وإنما يكتبه من أجل محو الدروب التي ضلّت فلم تصل إلى القرى، ومن أجل المحبة كي تبقى وقيدة نار، ومن أجل الأمل ليصير أشجاراً جذورها راسخات، وتوّرقُها آبد، وظلالُها مديدات. ها هو في قصة (في ارتطام الجهات) يواقف مشاهد الحرب وصورها، فيتلبث عند تفاصيلها الكاوية، ويسائل نفوس الذاهبين إليها، فيوصّف، ويصوّر، ويتأمل حتى لتصير خُطا الجنود أجراساً لها صلصلةٌ لا تسمعها إلا عندما تمشي إلى الحرب.

ها هي الأم العجوز تبكي فرحاً لأن ابنها أسعد اختار الفتاة التي تحبّها “مثلما يحبّها هو أيضاً” لتكون زوجةً له، لكن حرب العشرية الدموية الأخيرة، تناديه ليكون الرديف الاحتياطي لرفاقه، فتغصّ خوفاً عليه، وهناك في الجبهات يعاني، ويحنّ، ويسأل، ويشتاق، ثم يعود إلى أمّه وخطيبته في الخشب الصقيل، فلا يمحو لوعة الفقد، وأحزان الإياب الأليم إلى مقبرة الشهداء سوى ذلك العناق الحميم بين أمّه وخطيبته، وبينهما يمرّ نهر الدموع السابحات، وبالجوار، قرب الأفق الداني، مُهر يهمّ بطراد جديد!.

قصة (في ارتطام الجهات) نص يدور سرده دوراناً حلزونياً، فيواري الأحداث ويبديها، ويقرّب الثنائيات لتصير في مرمى البصر كيما تتجلّى الأضداد بين الخصب والقحل، والضوء والعتمة، والفرح والحزن، والحضور والغياب، والموت والحياة!.

في القصة أحزان غامقة، تشبه الليل بسطوته، فتواري الألوان، والهيئات، والحجوم، والوجوه، والخُطا، فلا تبديها سوى جهجهة الضوء، وعناق خطيبة الشهيد أسعد لأمّه، وما تقوله الدموع البّارقات.

بلى، قصة واحدة تشبه الطبيعة في بكوريتها تكفي لتقول لنا هنا جمال لا تكتبه إلا ذات كابدت ما كابده الحطب حتى صار جمراً، وهنا ظلال مديدة تخبر عن سعة الغابة وتعاريش الخضرة فيها.

هنا، أبدي فرحي بقصص محمد باقي محمد الجديدة (في ارتطام الجهات) لأنها جوهرة تضاف إلى قلادة القصة القصيرة السورية التي صاغها الآباء بذوب أرواحهم.

Hasanhamid55@yahoo.com