دراساتصحيفة البعث

القضية الفلسطينية لا تموت ولا تختزل

هيفاء علي

أثبت العدوان الإسرائيلي الوحشي الأخير، والذي اعتبرته سلطات الكيان الإسرائيلي “ضربة استباقية” تستهدف حركة “الجهاد الإسلامي”، أن جولة جو بايدن الشرق أوسطية الأخيرة لم تغيّر السياسة الأميركية في المنطقة بشيء، بل كانت تهدف بالأساس إلى خفض أسعار الطاقة في أعقاب الحرب في أوكرانيا التي تتهدّد الاقتصاد العالمي، ولذلك تجاهل بايدن المسألة الفلسطينية، تاركاً الشعب الفلسطيني مهمشاً أكثر من أي وقت مضى.

بايدن لم يضع تنازلات سلفه دونالد ترامب لإسرائيل موضع تساؤل، ولم تلقَ المستوطنات أي إدانة رسمية، في حين ما زالت القنصلية الأميركية في القدس “الشرقية” مغلقةً، كما لا يزال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن مغلقاً. ورغم أنّ الولايات المتحدة ملتزمة بدعم حلّ الدولتين، لكنها لم تعرض إطاراً لمفاوضات جديدة.

لطالما كانت هذه اللامبالاة جزءاً من السياسة الخارجية الأميركية في المنطقة، إلا أنها تعكس اليوم التراجع الكبير للقضية الفلسطينية على المستوى العربي والدولي، فلم يعد للقضية الفلسطينية القدر نفسه من التأثير على السياسات الوطنية، مقارنةً بما كان عليه في الماضي، على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، فقد عانت عدة دول منذ بدء ما يُسمّى “الربيع العربي” من نزاعات أو عمليات انتقال سياسي مضطربة، وبالتالي صارت الدول العربية تصبّ اهتمامها أكثر على المشكلات المحلية بدلاً من الشواغل الإقليمية على غرار فلسطين. وهذا بدوره أدى اجتماعياً إلى تراجع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين. يضاف إلى ذلك بروز زمن التطبيع الجديد المتجسّد في اتفاقات “أبراهام”، حيث جاء الزخم نحو التطبيع من الرغبة في الاستجابة، بمعنى أدقّ الانصياع للسياسة الأميركية الخارجية في ظل إدارة ترامب، إذ أتاحت “صفقة القرن” الكارثية، فرصةً لحلفاء الولايات المتحدة القدامى لتعزيز مكانتهم الجيوسياسية، وللحلفاء الجدد لكسب نفوذ في واشنطن عبر إبراز مواقفهم المؤيدة للكيان الإسرائيلي. وبعد رحيل ترامب، تخلّت الدول العربية عن التزاماتها وتحالفاتها القديمة، وأخذت تسعى في ظل هيمنة أميركية متقهقرة، إلى تحقيق مصالحها الخاصة.

وعليه، لم يتمّ إغفال المسألة الفلسطينية في إطار توافق إقليمي جديد، بل لم يعد ثمة نظام إقليمي، فالتحالفات التقليدية جرى استبدالها بمشهد دائم التبدل من النزاعات والتكتلات الظرفية، وكل دولة تنظر إلى النظام الإقليمي على أنه بمثابة مائدة كبيرة بمقدورها أن تأكل منها وتتخذ مواقف تبدو متناقضة، بحيث تبدو نماذج التعاون هذه نفعية لا تقوم على توافق أيديولوجي، وإنما على تقاطعات مؤقتة لمصالح مشتركة. فعلى سبيل المثال، يتعاون النظام التركي مع روسيا لتسهيل عبور الحبوب عبر البحر الأسود، ولكنه وافق أيضاً، بعد ضغوط أميركية متكررة، بالسماح لفنلندا والسويد بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي. كذلك، يشارك النظام التركي في لقاءات ثلاثية مع إيران وروسيا، في الوقت الذي تبيع فيه مسيرات عسكرية إلى أوكرانيا. ولا تزال هناك دولتان خليجيتان لم توافقا بعد على التطبيع مع الكيان الإسرائيلي. وبالنسبة إلى السعودية، فإن العائق الأساسي للتطبيع هو وصايتها على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة المنورة، كما أن التسامح إزاء التوسّع الاستيطاني في فلسطين سيعني التخلي رمزياً عن القدس “ثالث الحرمين”.

مسألة القدس

بدايةً، هناك من يحاول تقليص القضية الفلسطينية لتتحوّل إلى مسألة حقوق الإنسان، بدلاً من كونها نضالاً من أجل التحرّر الوطني. وبعد الأحداث الأخيرة التي شهدها الحرم القدسي، أصبح التركيز أكثر على البعد الديني للصراع حول القدس كمدينة مقدسة، فمشكلة القدس صارت تتمحور حول المسجد الأقصى، بما في ذلك قبة الصخرة. وهذا البعد الروحاني شديد الحساسية لا يهمّ الفلسطينيين فقط، بل المسلمين ككل، في قلب فشل مفاوضات كامب ديفيد في عام 2001.

لا ريب أن قصية فلسطين تعرّضت لانتكاسة في هذه المرحلة الجديدة، غير أن التاريخ يظهر أن مطالب التحرّر تبقى، حتى في وجه استعمار لا يرحم. فإيرلندا الشمالية مثلاً ثمرة الاستعمار البريطاني لإيرلندا قبل 600 عام. ورغم ذلك، حتى اتفاق “الجمعة العظيمة” لم يحلّ تماماً التوتر الديني والقومي. بالمثل، ستستمر القضية الفلسطينية، فالتحرّر تطلّع إنساني أساسي، يصمد أمام كافة الضغوط الجيوسياسية والدينية التي تحكمه حالياً.