مجلة البعث الأسبوعية

د. مختار عيسى: الأديب محاصَر بين التفاهات التي تُقدّمها أجهزة الإعلام

البعث الأسبوعية-أمينة عباس

يُعدّ من أهم المثقفين العرب، وهو شاعر وقاصّ وروائي وناقد أدبي، وصحفي، عمل في مؤسسات إعلامية كبرى داخل مصر وخارجها، وتبوأ د.مختار عيسى مناصب ثقافية رفيعة، وهو اليوم نائب الأمين العام للاتحاد العام للكتّاب والأدباء العرب، ونائب رئيس اتحاد كتّاب مصر.. زار دمشق ضمن وفد مجلس الاتحاد العام للكتّاب والأدباء العرب الذي عقد اجتماعه فيها مؤخراً، والتقته “البعث” على هامش الاجتماع وكان الحوار التالي:

*هذه هي الزيارة الأولى لك لسورية، فأيّ انطباع تولّد لديك؟

**في طريقي من المطار إلى حيث إقامتي أصابني بعض الحزن لأنني رأيتُ الشوارع مظلمة، ولكن ما أسعدني وأعاد الفرحة إلى قلبي ذلك السطوع الذي رأيتُه في قلوب السوريين والذي جعلني أشعر أنني أتيتُ إلى عاصمة النور الوطني والموقف الثابت، وعلاقتي بهذا البلد علاقة وطيدة،فهو البلد الذي أعتبره جبل المقاومة الذي حاول الكثيرون أن يقنعونا أنه انهار، لكن ومنخلال متابعتي للمشهد السوري وصمود الإنسان السوري في وجه كل تيارات الظلام والتخلف تأكد لي أن هذا الجبل يزداد شموخاً، وأن سورية ستبقى حصناً لهذه الأمة التي لم ولن تفقد حلمها بالانتصار لفكرة العروبة، وسورية هي أعظم تجسيد لهذه الفكرة التي لن تتخلى عنها رغم ما يحيط الأمة من تكتّلات وخيانات حكّام لشعوبها، وأعتبرُ نفسي واحداً من أهل العروبة التي يؤمن بها الرئيس د.بشار الأسد إيماناً عميقاً، وهو المقاوم والبطل لأنه لميترك الوطن للقوى الغربية التي تكالبت على سورية وحاربها وصمد، ونحن معه حتى تتخلص سورية من كل ما يُدبَّر لها.

*متغيرات كثيرة طرأتعلى العالم والوطن العربي، فما أبرز التحديات التي تواجه المثقف العربي اليوم؟

**أكبر تحدّ يواجه المثقف العربي هو ألا يُستَلَب إلى العولمة في صيغتها الامبريالية الأميركية.. إن فكرة العولمة تقوم على محوِ الفروق بين الشعوب وتسيّد نموذج واحد، والسبب يعود لأن الولايات المتحدة كانت ضحية “القزامة التاريخية” وهو عنوان مقال سبق وأن كتبتُه في صحيفة “تشرين” أي أن أميركا دولة ليست لها جذور ولا تاريخ، وهي دولة طارئة،لذلك تعمل على محو الهويات وتحارب الدول ذات الجذور كمصر وسورية والعراق، وهي تعمل على تدمير كل ما له علاقة بهذا التاريخ، مستهدفةً الآثار وكل ما يدل عليه، وهذا ما فعلتْه في العراق وسورية، وهو ذاته نفس النهج الذي يتبعه الكيان الصهيوني لأن الاثار تاريخ ودليل على الحق، ولأن محو الآثار والركائز التي تصون الهوية يضمن لهذا المحتل بصيغته العولمية البقاء، لذلك يجب أن يتمتع المثقف بوعي كبير حرصاً على ألا يُستلَب من قِبل العولمة.

*ولكن ماذا عن ضرورة المثاقفة والتلاقي؟

**المثاقفة والتلاقي ضرورة لكل الشعوب،لكن يجب ألا يكون ذلك على حساب ركائزها ومواقفها الوطنية والقومية الثابتة.. لدينا جذور لا بد أن نتمسك بها، وبنفس الوقت يجب ألا نكون من هواة التحنيط وعبادة الماضي، ويجب أن نتطور مع العصر، ونأخذ من الماضي ما يصلح لأن يتم تداوله آنياً ومستقبلاً، ونترك ما عداه حتى لا نكون أسرى للماضي.

*وكيف يجب أن تتجلى العلاقة بين المثقف والسياسي برأيك؟

**العلاقة حالياً بين المثقف والسياسي تقوم على إشكالية كبيرة، ولعلّنا نتذكر المقولة الإقصائية الظالمة لوزير الدعاية النازي بوبليز”عندما سمعتُ كلمة ثقافة تحسستُ مسدسي” هذه المقولة تجعلنا ننظر إلى مسألة الثقافة بارتياب وكأن السياسي يرتاب بالمثقف، وهذا خطأ فادح لأن السياسي يجب ألا يرتاب بالمثقف، والمثقف يجب ألا يرتاب بالسياسي، فكل واحد عليه أن يقوم بدوره ليكملا بعضهما، فالسياسي الوطني عليه أن يستفيد من قدرة المثقف على استشعار الكوارث والإصغاء لما يحذّر منه، وبالتالي على السياسي الوطني الواعي أن يعتمد على المثقفين الوطنيين الواعين وليس على أولئك الذين يتصدرون المشهد وهم لا يمتّون إلى الثقافة الحقيقية بصلة.. إنالمثقف الحقيقي مهموم دائماً بدوره في المجتمع، وعليه ضريبة لا بد أن يدفعها إلى المجتمع، والسياسي الحق عليه أن يستعين بالمثقف الحق ليتكامل الاثنان لمصلحة الوطن، خصوصاً في هذه الأيام.

*وماذا عن واقع الأديب العربي اليوم؟

**الأديب العربي مُحاصَر بين التفاهات التي تُقدّمها أجهزة الإعلام بمختلف مستوياتها، ومعظم الأدباء العرب فقراء يركضون وراء لقمة العيش،وبعضهم سئم فكرة المقاومة والإيمان بالقضايا الحقّة، وبالتالي لم يبقَ إلا أولئك الذين يعضّون على قضاياهم بالنواجذ، آملاً أن أكون واحداً منهم، وهؤلاء يدفعون ثمناً كبيراً، فأنا مثلاً حوربْتُ كثيراً جراء موقفي من سورية، ولستُ نادماً على ذلك وإنما فخور لأنني كنتُ صادقاً مع نفسي ومع وطني.

*ما هو دور اتحاد الكتّاب في مصر في مكافحة التطبيع مع العدو الإسرائيلي؟

**نحنُ في اتّحاد كتّاب مصر لنا موقف حاسم من مسألة التطبيع، كما لدينا مكتب مكافحة التطبيع ورئيسه د.علاء عبد الهادي وهو من أشدّ المناهضين لفكرة التطبيع، وكوني رئيس لجنة التحقيقات في الاتحاد أُحيل إليّ عددٌ من الذين طبّعوا مع إسرائيل، وكانت العقوبة شطب أسمائهم من العضوية.. وبالعموم توجد في مصر مجموعة تيارات على هذا الصعيد، ولكن الغالب هو التيار الرافض لفكرة التطبيع الذي يستجيب لإرادة الشعب المصري لأن الحكومات تطبّع كما تريد، لكن الشعوب لا يمكن إجبارها على التطبيع لأن بينها وبين العدو ثارات كثيرة لا يمكن التنازل عنها،مع التأكيد على أن المثقف الحقيقي لا يجب أن يخضع إلا لثقافة وطنه.

*تتصدّى كتاباتُك لفكرة التطبيع، فماذا عن الرواية في هذا المجال؟

**لي رباعية روائية متصلة منفصلة تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وسيصدر الجزء الرابع قريباً، وهو يتناول عدداً من القضايا الشائكة في هذا الإطار، وتتضمن الرواية شخصيات تاريخية وبعض الأحداث التاريخية، وتسلّط الضوء على ثبات الوعي المصري في رفضه للتطبيع.

*مسيرتك غنية في عالم الكتابة،فمن هيّأكَ لتمشي في هذا الطريق؟

**يهمني أن أتحدث عن دور المؤسستين المهمتين جداً في حياتي.. الأولى هي الأسرة، والثانية هي المدرسة، والسؤال هناهو: هل كل أسرة تستطيع أن تقوم بالتقاط بذرة الموهبة ورعايتها أم أن هناك أفراداً داخل الأسرة تؤهلهم رغم ظروفهم الصعبة لفعل ذلك؟ جدّتي التي كانت مكفوفة وأميّة وتنحدر من أصول ريفية كانت تملك من الكنوز المعرفية ما تعجز عنه مئات الكتب، وهذا أمر ما زال محيراً بالنسبة لي حتى الآن، حيثُ لعبتْ دوراً كبيراً في تهيئتي للنشيد والنشيج لأنني كنتُ أستمع إلى أغانيها الريفية وأستمتع بإيقاعها كما أستمتع بنشجيها وهي تناجي زوجها الميت منذ ثلاثين عاماًبأبيات شعرية رائعة.. لقد كشفتْ أمامي هذه الجدة عوالم كثيرة كتبتُ عنها كثيراً ودخلتْ في الكثير من القصائد التي كتبتُها، وأهديتُ إليها مجلّدات الأعمال الشعرية الكاملة وكأنني أحاولُ بذلك أن أردّ إليها هذا الجميل لأنها كانت صاحبة الدور الأكبر في تكوين شخصيتي وحبّي للشعر والنثر، ودفعتني للقراءة في سن مبكرة مما وطّد علاقتي باللغة العربية والتي امتدّت حتى الآن، كما لا أنسى دور المدرسة وتشجيع معلمي لي في المرحلة الابتدائية، وثناءه على موضوعات التعبير التي كنتُأكتبها ليزرع فيّ الثقة التي دفعتني للكتابة في سن صغيرة.

*كتبتَ القصة، الشعر، الرواية، والمقالة النقدية، فأين أنت من كل هذه الأجناس الأدبية؟

**أؤمن أن أولئك الذين يتلقون العالم بشكل جزئي يقفون عند فنّ معين، وأعتقد أنهم يحتاجون لإعادة النظر بالحياة.. أنا أميل للتلقي الكلّي للعالم، وبالتالي فإن استجابتي الإبداعية لهذا العالم استجابة كلية، وهذا جعلني أكتب في كل الفنون لأنني لا أستجيب لهذا العالم بجزء أو بعضو واحد من أعضائه بل بالجسد كله، والاستجابة الكلية تجعلني أغوص في هذه الفنون جميعها وأقدّم فيها ما وجد صدىً طيباً عند النقاد والجمهور.

*يتم الحديث كثيراً عن غياب النقد، فما هي الأسباب برأيك؟

**الأحكام العامة التي يطلقها بعضُهم ليست صحيحة، وما يحدث على أرض الواقع أن هناك مشكلة في الوسيط الذي بين المبدع والمتلقي، وهذا الوسيط هو إما ناقد أو الوسائل الإعلامية، وبالتالي هناك تقصير إعلامي في توصيل المنُتَج الإبداعي إلى المتلقي أو إلى الناقد.

*وما هي أهم عيوب النقد حالياً؟ وكيف تعامل النقدُ مع ما أنجزتَه؟

**كثير منه مازال أسير الماضي ويتوقف عند ما أنجزه السابقون وهوما أسميه بالتحنيط الثقافي، وهناك نقاد يتناولون الأعمال بمقاييس مسبقة وجاهزة ومُعلّبة، في حين أن النقد والناقد الجيد يجب أن ينطلق من العمل ذاته بعيداً عن المقاييس الجاهزة والرأي المسبق، ومن المؤسف وجود نقاد ينصبّون أنفسهم معلمين في مدرسة يوزعون درجاتهم على هذا وذاك،في حين أن الناقد الحقيقي هو من ينشئ نصاً موازياً ويُقدّم قراءته للقارئ، ولا أنكر أن النقد لم ينصفني كثيراً،فأنا كناقد اهتممتُ بالآخرين بقدر أكبر من اهتمامي بما كتبتُه، ولكني سعيد بأن الدراسات الأكاديمية في الجامعات اهتمت كثيراً بما كتبتُه، فلي رواية تناولها أكثر من 25 دارساً، وهذه الدراسات لا تُنشَر لأن المشكلة تكمن في الوسيط أو في الناقد.

*هل تستطيع أن تنجز نصوصَك الإبداعية بعيداً عن عقل الناقد؟

**بالتأكيد لا أستطيع لأن الكاتب الجيد هو الناقد الأول لعمله، وفي كثير من الأحيان يكون أقسى على نفسه من الناقد الآخر، ويهمني كثيراً أن أستفيد من الكتابات النقدية حتى لا أقع فيما آخذه على الآخرين، وكناقد لي أكثر من 30 دراسة نقدية منشورٌ معظمها في المجلات العربية الكبرى، كما سيصدر لي كتاب نقدي عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان “وردة ونص” أتناول فيه عشرين شاعراً عربياً بالدراسة النقدية، وكتاب آخر بعنوان “الحكّائون قضايا ومواقف” وكتاب ثالث بعنوان “شعراء العامية المصرية”وتسعدني كتابة النقد كثيراً، وأعتز أن عدداً من كتّاب مصر يحجزون أدواراً عندي لدراسة أعمالهم.

*وماذا عن تجربتك في كتابة الأغاني؟

**في مطلع شبابي عام 1974 وكنتُ لم أتجاوز بعد عمر العشرين كتبتُ أغنية لهاني شاكر ليغنيها وهي تتحدث عن العبور في حرب تشرين التحريرية، ومع فضّ الاشتباك باتجاه اتفاقيات السلام طُلِب مني أن أكتب عن السلام، ولإيماني بأن هذا السلام كاذب مع دولة مغتصبة رفضتُ أن أكتب، وتوقفتُ عن كتابة الأغاني لسنوات طويلة، ثم عدتُمعبعض المسرحيات،وأعترف أن الأغنية سلاح مهم وعلينا أن نهتم به، ومن المؤسف أنني عشتُ فترة أنظر إلى الأغنية على أنها إبداع أقل قيمة، لذلك لا أخفي ندمي لعدم الاستمرار في كتابة الأغاني التي تُعدّ الأقرب إلى الجمهور.

*حصلتَ على العديد من الجوائز، فأيها الأقرب إلى قلبك؟

**الأقرب إلى قلبي وأهم جائزة حصلتُ عليها كانت محبة الناس ومتابعتهم لما أكتبه، إضافةً إلى الرسائل الجامعية التي تناولتْ أعمالي.

*من هو الكاتب السوري الذي تعجبك كتاباته؟

**محمد الماغوط الذي قرأتُ له كثيراً وتوقفتُ عند كتابه “سأخون وطني”.

 

د.مختار عيسى

نشأ في أسرة فقيرة، وكان متفوقاً في جميع المراحل الدراسية، وتخرّج من قسم اللغة العربيّة بتقدير ممتاز، ثمّ اتجه إلى العمل الصحفي، وعمل لمدة 15 عاماً في الكويت، وتقلد فيها مناصب عدة في المجلات والصحف، وله أكثر من 12 ديواناً باللغة العربية الفصحى، و7 دواوين بالعامية، وعدد من النصوص المسرحية التي قُدِّم بعضُها على خشبة المسرح، وله عدة روايات، منها: “سوسنة المستنقع” وقد لقيت رواجاً كبيراً وكُتِبَ عنها أكثر من 20 دراسة نقدية وتحوّلت إلى سيناريو ليتمّ تقديمه كعمل تلفزيوني من 30 حلقة.