مجلة البعث الأسبوعية

«دعه يعمل .. دعه يمر» الفكر في مواجهة الإيديولوجيا

د. مهدي دخل الله

شعار تم استخدامه .. وإساءة استخدامه . لعله كان حقاً يراد به باطل . نحن في سورية قد جربنا منذ 1963 شعار «لا تدعه يعمل .. لا تدعه يمر» مؤكدين على التطرف في نهج الحلول الاقتصادية مقابل تطرف النهج الآخر ، نهج « دعه يعمل .. دعه يمر» . وكانت النتيجة بأن صدّرنا «روح المبادرة السورية» دون ثمن ، فبنى السوريون الوطن العربي من محيطه إلى خليجه … وبقيت سورية متشوقة لمبادرتهم .

اليوم نحن في لحظة تاريخية حاسمة لا بد أن يسبق الفكر فيها الإيديولوجيا . فهذه الأخيرة تعتمد على النص المطلق الذي يقترب من القداسة ، بينما الفكر يبحث عن الحلول في الواقع الحقيقي وليس في النظريات المسبقة والأفكار المؤدلجة المعلبة .

شعار « دعه يعمل .. دعه يمر» وضعه فيزيوقراطيو فرنسا في القرن الثامن عشر معلنين بذلك بداية نهج الرأسمالية الليبرالية التقليدية التي طرحت الحرية الكاملة للحوامل الاقتصادية الخاصة ، وذلك بهدف تشجيع المبادرة وتمكين تلقائية السوق من حل الإشكالات والأزمات التي تظهر في مسار التطور ..

بالمقابل ، قامت الإيديولوجيا الاشتراكية التقليدية على إنهاء دور المبادرة الخاصة لصالح الحامل العام المتمثل بالدولة . عملياً ، انهارت التجربتان ، الليبرالية التقليدية والاشتراكية التقليدية كلتاهما . الأولى تحولت في اتجاهين : ليبرالية جديدة وتدخلية اقتصادية في الولايات المتحدة ، واقتصاد سوق اجتماعي في أوروبا وفق أنماط متعددة ( السويدي ، الألماني ، الفرنسي ) . أما الاشتراكية التقليدية فقد وجدت هي الأخرى مخرجين ، الأول هو الانهيار الكامل في روسيا وأوروبا الشرقية ، الثاني يمثل حلولاً مبدعة تجربها الصين في منهج «السوق الاشتراكية» ..

اللحظة الحاسمة التي نمر بها اليوم في سورية تفرض علينا إشغال الفكر استناداً إلى الواقعية المبدئية بعيداً عن المقولات المسبقة المؤدلجة . الفكر يتطلب وضع خارطة للواقع المعطى في سورية ثم إمعان النظر في حلول مركبة . حلول تبنى على المنهج التعددي بدلاً عن المنهج الخطي ( المسطرة ) ، والمنهج الوظيفي بدلاً عن المنهج الشعاراتي . فالحلول التي تصلح لقطاع إنتاج الإسمنت مثلاً ، سواء في إطار ملكية وسائل الإنتاج أو تنظيم العمل وتوزيع ( الدخل ) ، قد لا تصلح لمعمل إنتاج الألبان أو غيره ..

لم يبق لدينا وقت لنجرب .. لعل وعسى . لدينا تجربة عمرها حوالي سبعين سنة ، نجحت فيها الحلول الاشتراكية في بناء شبكة مهمة من البنى التحتية وخاصة كهربة البلد وبناء السدود ، كما نجحت في مجال التعليم ( نجاحاً زائداً عن اللزوم فانقلب إلى ضده ) ، لكنها فشلت فشلاً واضحاً في مجال الإنتاج المادي والخدمات التي ترافق هذا الإنتاج ، كما فشلت في الاستفادة من أمرين ، روح المبادرة عند الإنسان السوري والتراث الأثري السياحي الفريد من نوعه في سورية .

mahdidakhlala@gmail.com