ثقافةصحيفة البعث

التشكيلية زوفيك جلغيان: للطفولة لون البنفسج وللحياة لون الصبر!!

غالية خوجة 

تعتبر الفنانة التشكيلية زوفيك جلغيان مربية لأجيال متعددة، فهي امرأة متميزة كونها تحدت كل ظروفها، درّست، وكانت معلمة فاضلة في مدرسة كيليكيا إلى أن استقالت لتتفرغ لأمها المريضة، ورغم كل المصاعب واصلت موهبتها الفنية بالعزف على البيانو، وموهبتها التشكيلية فرسمت وأبدعت، حفرت على الخشب، ولونت القماش والخزف، نقشت على النحاس، وأحرقت مع الفحم واللون الكثير من آلامها وأحلامها ورحلاتها بين سورية وأرمينيا ولبنان وبلاد أخرى، شاركت في معارض متنوعة، أهمها معرض دمشق الدولي.

ولن أنسى ما قدمته لي كونها كانت مديرة المدرسة التي درست فيها مرحلة البراعم، وكانت جلغيان جارتنا التي تأخذني من بيتنا وتعيدني إليه وهي ممسكة بيدي وكأنني ابنتها، فلم أشعر وأنا الطالبة المسلمة الوحيدة، حينها، في كيليكيا المدرسة الأرمنية إلاّ بالرعاية والحنان والعضوية التامة لهذه المدرسة ومديرتها ومدرّساتها وطلابها، وهذه الفسيفساء الإنسانية هي ما يغرسه فينا وطننا سورية.

واعتادت أمي على الوفاء، فكنا نزورها وتزورنا إلى أن التقيتها يوماً ما، في منزلها المتأهب لكل حالة فنية، وكأنه معرض دائم لأعمالها، وأينما نظرت رأيت لوحات تشكيلية انطباعية وخرافية ورمزية وسوريالية ورومانسية وفلكلورية، ومجسمات ومنحوتات فنية مختلفة من الخشب والحجر، وأعمالاً يدوية من القماش والمخمل، ومطرزات ونقوش، ولوحات مرسومات على أدوات استعمال يومية مثل الزهريات والمقلاة والصحون، بينما الجدران فتجذبني إلى لوحات فانتازية من القصب والحرق على الخشب والألوان الزيتية والمائية والحبر الصيني.

وعن تلك الرحلة الممتدة سبعين عاماً وأكثر، تحدثت زوفيك جغليان قائلة: العودة إلى الوراء دائماً صعبة، فكيف سأرجع إلى ذاكرتي؟ لا بأس بالعودة إلى 32 سنة مضت أو أكثر! تخرجت من سان جوزيف في لبنان اختصاص رسم ورياضة، ثم تابعت دراسة الفن في مركز الفنون التشكيلية في حلب، وعندما بدأت التدريس كنت أدرس و أدرّس! ولم أستطع التخلي عن الموهبة الملونة، فأرسم،أطرز، أنحت، وأعرض أعمالي في معارض المدرسة، ولم أعلن عن نفسي فنانة، ورغم ذلك، أعجب الكثيرون بأعمالي التي عرضتها في المراكز الثقافية وفي الجمعيات.

ثم كان أن عبّرت عن سعادتها بإخراج ألبوم من الصور يعتبر ذاكرة توثيقية لمرحلة من مراحل حياتها الخاصة ومجتمعها العام وحلب، لأعبر معها من شبكة الذاكرة المصورة التعليمية والفنية والثقافية.

الفنانة جغليان تقلب الصور بألم وهي تشير إلى لقطة مع أمها، وإلى صورة بالأبيض الأسود تجمعها مع الفنان دريد لحام، وصورة أخرى للمعلمات والطلبة في مدرسة كيليلكيا، وصور لمعارضها المختلفة، وأعمالها المتنوعة، وتخبرني وهي تشير لألبومها كمن يشير إلى روحه الهائمة: بعت أغلب ما رسمته، واقتنت لوحاتي جهات مختلفة، أذكر منها ما اقتناه العديد من الفنانين الألمان والإنكليز والأرمن، كما أن الفندق السياحي بحلب اقتنى بعض جراري الكبيرة المزخرفة المنقوشة بدقة، وبلوحات أخرى لونية و نحاسية وخزفية لكل منها دلالات إنسانية.

واسترسلت: شاركتُ في معرض دمشق الدولي في دورته لسنة 1974، قدمت خلالها الفلكلور السوري الخاص بالمحافظات، وعلى إثرها، ومع شهادة التقدير، قدم لي الفنان وحيد مغاربة مفاجأته التي كانت عبارة عن لوحة “بورتريه” تمثلني، رسمني بألوانه، و هي معلقة على الجدار مع لوحاتي التي لم أستطع الاستغناء عنها!

تهطل اللوحة بدهشة

وعن الجاذبية بين حكايات أعمالها وموسيقاها الداخلية، أجابتني: لا أعرف كيف تهطل اللوحة! وبعدما يصبح الليل أكثر سكوناً، وذلك بعد الساعة الثانية من الظلام، تشدني الموسيقى كما الهدوء، فأنتبه أو لا أنتبه إلى أنني أرسم، ولا أعرف ماذا أرسم! أعيش مع الألوان دونما سبب! أفرشها في ساعة الصحو وساعة الغضب، أنظر إليها بدهشة طفل، ويجذبني البنفسجي.

وتابعت مؤكدة: أحب البنفسجي لأنه حنون ولا يُـظهر كل ما لديه، إنه لون رجال الدين، و لـه كرامة بين الملوك والقياصرة والشعراء! حنون، وبخجله يسحرني، وزهر البنفسج كما أراه يخبئ نفسه، ولا يعلن عن وجوده إلا برائحته العطرة المتميزة!

وعن علاقتها غير المقروءة مع لوحاتها، قالت: كعلاقة البنفسج بالعطر! فضـّـلتُ ألا أزوّج لوحاتي الأخيرة كي تظل معي! ومهما كان الثمن مرتفعاً فلن أبيعها، وأستيقظ صباحاً، لأطمئن عليها، ثم أتابع برنامجي اليومي بين المشي في الحديقة، والواجبات الحياتية اليومية الأخرى.

العزلة موسيقا والتشبث احترام

أمّا ماذا بين نصها الروحي وتجربتها الملونة وموسيقا الحياة، فرأت أن الكثير من التجارب تجعلها موغلة في المعرفة، ومنها معرفة الناس بكافة طرائقهم في التفكير والحياة.

وأضافت: ولا أنسى العزلة، أحب العزلة والتواضع، وأشعر بموسيقاها الخفية وأزهارها، كما أتشبث بالأصل والهوية واحترام الموتى والمحبة والإيمان، وهذه من الأمور المعنوية التي تشبه زهر البنفسج، وتقرب من المخفيات لأنها تظل في الداخل.

موهبتي ملونة 

وعندما تساءلت: موادك الأولية لأعمالك الفنية مختلفة ومتنوعة، فأيها الأقرب إليك؟

أجابت: الحب الإنساني للطبيعة والأشخاص هو محور لوني المفضل والأقرب إليّ، ثم الألوان الزيتية والمائية، الحبر الصيني، وقشور البزور وقشور القمح، ويسحرني الحرق على الخشب، وأحسه يشفي الجراح والأرواح.

ماذا تقولين عن الإنسان؟

أجابتني: الإنسان يحتاج إلى الكثير من اللوحات والموسيقا والشعر ليفهم الإنسان! والفنون خط استواء التوازن الحياتي.

لوحاتك المعنونة بالفصول الأربعة تذكرني بموسيقا الفصول الأربعة لفيفالدي؟

لوحاتي تشير إلى فصول الحياة وهي أكثر من أربعة فصول، أجملها فصل الخريف لأنه يجعلنا نتساقط كأوراقه، منتظرين مطر الحياة المتجددة، متأملين شمس الصيف الحاصدة، مزهرين لوحاتٍ جديدة، متأهبين لنتساقط كأوراق الخريف.

ـ الظل والضوء واللون ثالوث لإيقاعات متغيرة، فكيف تحققين الانسجام بين هذه العناصر ومرويات فنونك؟

نظرت إلى السماء المطلة من نافذة الغرفة، وقالت: ليل ونهار وصلاة، هو الثالوث في أعمالي، المتقابل مع الظل والضوء واللون، بينما اللوحة فهي محراب للروح، وموسيقا، وصوت، وصمت دائم.

وتابعت: وهناك، بين هذه العناصر، قد يكتشف الإنسان معنى الوحدة والقداسة، وأنا وحيدة أهلي بعدما توفيت أختيّ التوأم، وبعدما توفي أبي، أصبحت مسؤولة عن أمي والبيت.

وأكملت وهي تحدق بي كمن يحدق في أعماقه: والرسم علمني الصبر، وعلمني أن أبتكر فسحة جديدة للحياة بكل ما فيها من آلام، معايشة الألم فن، وهي تذكرني ببدايتي مع اللون عندما كان عمري 11 سنة ورسمت لوحتي الأولى، كنت سعيدة جداً بها، لكن الراهبة المسؤولة عني آنذاك، فاجأتني عندما سألتني: من أين سرقتها يا زوفيك؟ ثم تركتني وركضت إلى الجدران لتتفقد لوحاتها! لم تصدق حين أجبتها بأنني أنا التي رسمت اللوحة، وقلت لها بكل براءتي: اسألي أبي! وكم تمنيت لو أنها اهتمت بموهبتي، لكنها كانت كلما ترسم تطردني من الغرفة!

ما رأيك بالمشهد الفني في حلب؟

حلب زاخرة دائماً بالجديد، وما زالت تنجب اللون والموسيقا، وفي الزمن الماضي، في الفترة التي كان فيها بكري ناصر مديراً للمركز الثقافي، كنا مثل خلية نحل ثقافية وفنية، وكانت النشاطات تشبه فصل الصيف بحركتها المتواصلة، ومرت فصول على المشهد منها الربيع ومنها الشتاء، ويبقى الخريف المتساقط الأوراق أجمل من كل لحظة تمر على الألوان! وبالتأكيد، لا أنسى الفنان وجيه ستوت رحمه الله، والفنان وحيد مغاربة وآخرين.