الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

هَمّ لا يغيب

عبد الكريم النّاعم

جلسَ صديقي، وبعد فترة قصيرة قال: “لكأنّك غير موجود، فأين سرحْت”؟.

قلت: “أين يسرح أمثالي، هل تظنّ أنّي غارق في أحلام سعيدة؟!! الأزمنة الكئيبة حتى أحلامها تأخذ صفتها”.

قال: “هل من جديد”؟!!.

قلت: “وفي الأزمنة التي أشرتُ إليها ما يبيت الإنسان العاقل على همّ قديم، ففي كلّ لحظة ثمّة همّ يتجدّد، ويتناسل تناسل البعوض”.

قال بشيء من الضّجر المكبوت: “أراك كلّما فتحت باباً للتواصل تكاد تُغلقه، لقد ضاعفتَ قلقي، هل تستطيع أن تُحدّد ما الذي يثير فيك كلّ هذه الكآبة المتخفّية”؟

قلت: “من خلال الإطلالة التي تتيح لي أن أراقب حركة الشارع الذي يقع بيتي فيه، أستطيع أن ألمح الكثير بالعين المجرّدة، فكيف بمَن كانت أحلامهم بحجم الحلم..”!

قاطعني: “هل تعني أنّ الأحلام قد ولّت إلى غير رجعة، وقد حلّ محلّها قلق دائم”؟.

قلتُ: “ليس هكذا بالضبط، وإنْ كان الأمر لا يخلو من شيء منه، ففي أزمنة الانكسار تتواضع الأحلام لتتناسب مع ملامح أزمنتها”.

قاطعني وقال: “لم أفهم”.

قلت: “في الأزمنة التي يتوفّر فيها بعض الرضى، وبعض الاطمئنان يفكّر الإنسان بما هو أعلى، وبما هو أكثر رحابة وإنسانيّة، وتحقيقاً للعدالة، وفي الأزمنة التي نحن فيها تتواضع هذه الأحلام، فالجائع حلمه الحصول على اللّقمة، والخائف همّه الأمان، والقلِق همّه الطمأنينة”.

قاطعني: “أصبحت الفكرة واضحة، آسف للمقاطعة، هل تُكمل ما كنتَ بصدده”؟

قلتُ: “من خلال إطلالتي على العالم الخارجي ألمح الكثير ممّا لا تلمحه إلاّ العين الحسّاسة، والرؤية يا صديقي تختلف بين هذا وذاك بحسب درجة الحساسية، وبحسب التلمّس المادي والمعنوي، وأنا كما تعلم أمضيت شطراً من حياتي في التعليم، وقد كان راتب المعلّم آنذاك يتيح له أن يعيش عيشة مستورة، لا أكثر، وكان الزمن أكثر اطمئناناً، وأنا كلّما شاهدتُ التّسيّب الذي أعرف بعضه، ويحدّثني بعض زوّاري، على قلّتهم، عن بعضه الآخر،.. كلّما شاهدتُ ذلك ازداد قلقي، لأنّ هذه الأجيال التي تبدو سائبة، هي التي سيقع على عاتقها مهمّة بناء الآتي من الأيام، وأنت لا تستطيع البناء بأبناء البلدان الأخرى، ولا يمكن استيراد بدائل، يقلقني يا صديق العمر أنّ (التعليم) في أدنى درجاته، وسأترك الحديث عن (التربية)، وكلاهما لا ينفصل عن الآخر في التقييم السليم، أنظر إلى أبناء هذا الجيل بمراحله التعليميّة، فستجد الخواء، والغثاثة، والسطحيّة، فما الذي سوف تُنتجه هذه المضامين؟!!، أسّ البدايات السليمة، الواثقة يبدأ من التعليم، هو قاعدة البناء، ومَن أراد أن يسخّف شعباً، ويستجرّه إلى مهالكه يكفيه أن يتدنّى التعليم، ثمّة مَن أنهى نظريّاً مرحلة التعليم الأساسي وهو لا يستطيع قراءة عدّة أسطر، بل هو “أمّيّ” مزوَّد بشهادة تعلّم؟!! أليس ذلك خطيراً؟!!

أنظر إلى جامعاتنا التي كانت شهاداتها تلقى الاحترام في كلّ بقاع الجامعات.. أنظر أين كانت وأين صارت، ما الذي جعل هذه الصروح تنهار هذا الانهيار المريع؟!!

لا شكّ أنّنا نحتاج إلى كلّ مفردات النهوض لننهض من الخراب الذي جاء بعضه من خارج، وبعضه من داخل، وعدوّ الداخل أشدّ خطراً من عدو الخارج، لأنّه يتخفّى بثياب المواطنة، وأضراره أفْدح،.. وأهمّ هذه المفردات سلامة التربية والتعليم، لأنّ سلامة الأجيال القادمة، وتحصينها يأتي من هنا، من هذا الموقع، لذا لا بدّ من اجتراح حلول، وابتكار أساليب مأخوذة من معطيات الواقع، لا مُستعارة من واقع آخر ما يكاد يشبهنا، مهما بلغ من الرقيّ..

سلامة المعلّم والتعليم، بجميع مراحله هي المفتاح، فهل ثمّة صحْوة”؟!.

aaalnaem@gmail.com