دراساتصحيفة البعث

أوروبا تفتقر إلى القادة

هيفاء علي

يلاحظُ المراقبون الغربيون مدى تدهور مستوى القادة في بلدانهم من خلال تلمّس عدم وجود قادة سياسيين حقيقيين، حيث يجدون أن النخب الغربية غير مستعدة على الإطلاق لعصر جديد من التنافس بين القوى العظمى، وغير مستعدة لمواجهة واقع العالم.

وها هو عالم الاجتماع والمحلل “فرانك فوريدي” يوضح أسس هيكل النخبة الحالية بالقول: “فجأة يبدو العالم مكاناً خطيراً للغاية، فبعد عقود من الاستقرار الظاهري، عادت المنافسات بين القوى العظمى إلى الظهور. وافتراضات ما بعد الحرب الباردة يتمّ تحديها جميعاً. وفي الوقت نفسه، وصلت التوترات الاقتصادية طويلة الأمد بين الصين والولايات المتحدة إلى درجة الغليان، ما يهدّد الترتيبات الأمنية الحالية في المحيط الهادئ”.

كما فاجأت جائحة كورونا، وتعطل التبادلات الاقتصادية وسلاسل التوريد العالمية، والصراع في أوكرانيا وأزمة الطاقة الحالية، النخب الغربية. وفي الوقت الذي تغرق فيه أوروبا في أزمة طاقة غير مسبوقة، يمكن للولايات المتحدة، أن تتغلب بسهولة على الأزمة الحالية. أما أوروبا فهي في وضع مختلف، من جهة هي ليس لديها عملياً أي موارد طبيعية خاصة بها، وهناك ارتباك في الاتحاد الأوروبي. لقد عانت أوروبا من ارتباك عميق لمدة عشرين عاماً، والنموذج الذي بُني عليه في الخمسينيات -النموذج الثلاثي الذي تخيله جان مونيه: السلام والفيدرالية والسوق- تحطّم على صخرة حقائق القرن الحادي والعشرين، لأن أصل المشكلة هو عدم وجود قادة أقوياء قادرين على التصرف، حتى عندما حاول المستشار الألماني، أولاف شولتز، أن يأخذ دفة القيادة في أوروبا فشل فشلاً ذريعاً بملء الفراغ في قارة متعطشة للقيادة.

أما إيمانويل ماكرون، فلم يمارس دور الزعيم الأوروبي المثالي على مستوى المهمّة على الإطلاق، بل انهار على الأرض بعد أن فقد قبضته على البرلمان، بحسب صحيفة “فاينانشيال تايمز” التي قالت: “تبدو السنوات الخمس المقبلة الآن مختلفة للغاية بالنسبة للرئيس الفرنسي الذي يدفع بفكرة العولمة، لكنه لا يصل مطلقاً إلى مستوى القائد”. في حين أشارت “ذا تايم” إلى أنه في ظل حكم ماكرون، توقف اقتصاد البلاد عن النمو، وهناك المزيد من التناقضات في المجتمع الفرنسي، وبالتالي يبدو أنه البطل الوحيد للعولمة الذي نصّب نفسه على استعداد لأن يصبح أكثر عزلة!.

من الواضح أن المؤسّسة السياسية في الولايات المتحدة، ودول الاتحاد الأوروبي تفتقر إلى الموارد الفكرية، والوضوح والنزاهة للقيادة على المسرح العالمي، ما يعدّ مؤشراً على اختفاء فن السياسة عملياً، حتى زيارة نانسي بيلوسي لتايوان كانت مؤشراً على عمل طائش، ويوضح كيف فقد كبار السياسيين الأمريكيين كلّ التزامهم بالدبلوماسية، ومع الحرب الأوكرانية.

وفي معرض تعليقه على هذا الأمر، أعرب الدبلوماسي الأمريكي هنري كيسنجر عن أسفه للافتقار إلى الحسّ السياسي المدروس في الأزمنة المعاصرة، ونقص الجدية الفكرية بين القادة الغربيين المعاصرين. وانتقد الجامعات لأنها تنتج “مقاتلين وفنيين” وليس قادة. ولم يخفِ قلقه البالغ من المجموعة المعاصرة للدبلوماسيين والمتخصّصين في الشؤون الخارجية المدرّبين في الجامعات الأنغلو أمريكية، لأن “العديد منهم مشبع بإيديولوجية العولمة” التي تعتبر الجيوسياسة مصدر قلق قديم الطراز وعفا عليه الزمن وينتمي إلى الأشرار.

وبحسب المحلل فرانك فوريدي، فإن الفكرة القائلة بأن الجغرافيا السياسية غير ذات صلة في عالم تسوده العولمة، إنما تستند إلى الاعتقاد بأن التنافس بين القوى العظمى سيتمّ تخفيفه من خلال التعاون الاقتصادي، حيث تمّ توضيح هذه النقطة من قبل الرئيس الأمريكي السابق، بيل كلينتون، الذي ادّعى أن الجغرافيا السياسية قد حلّت محلها الجغرافيا الاقتصادية. وعليه، ترى الطبقة السياسية بأكملها والدبلوماسيون في الغرب السياسة والأحداث في العالم وفقاً لهذا النموذج.

رأى هؤلاء الخبراء، على سبيل المثال، في التكامل الأوروبي حلاً لتقديم “حل دائم للحرب”، بينما مضى بعض علماء وخبراء السياسة الدولية الغربيين إلى حدّ الادعاء بأن الحرب قد عفا عليها الزمن. وفي هذا السياق، يشير “جون ميللر” السياسي الأمريكي المختص بالعلاقات الدولية، إلى أن البلدان المتقدمة هجرت أو تخلّت عن الحرب في طريقة إدارتها للعلاقات مع الدول الأخرى. ووفقاً له، فإن النزاعات العسكرية ليست سوى مسألة “بلطجية” و”ما تبقى من المقاتلين”. وأكبر دليل على ذلك، هو الصراع في أوكرانيا الذي فاجأ أولاف شولتز أو إيمانويل ماكرون أو أورسولا فون دير لاين، ووجّههم إلى منطق العولمة بدلاً من النظر في قوة الجغرافيا السياسية وأهمية دور الدبلوماسية.

بمعنى أن هؤلاء السياسيين هم جزئياً أسرى الرؤية التكنوقراطية الضيّقة التي تبنوها خلال سنوات دراستهم الجامعية. وبالتالي، فان المؤسّسة الغربية ليست فقط ضعيفة التدريب والتعليم حول وجهة النظر هذه للسياسة الخارجية، بل إنها تبنّت أيضاً، إلى جانب أعضاء آخرين من النخبة الحاكمة، وجهة نظر عالمية للسياسة الخارجية شجعتهم على الانفصال عن أمتهم. وخبراء السياسة الخارجية والدبلوماسيون، الذين استوعبوا هذه الافتراضات العالمية، غير مستعدين للتعامل مع التحديات الجيوسياسية المعقدة التي يواجهونها الآن، بحسب ميللر.