الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

إيرين باباس

حسن حميد

أعترفُ بأنني لا أستطيع مغادرة ثقافة البلاد التي كان لها الدور الأهم والمؤثّر في تطوير المعارف عامة، والآداب والفنون خاصة، ومنها الثقافة اليونانية، فما من سؤال عن الأساطير إلا وعدتُ إلى الأساطير الإغريقية للإجابة عنه، وما من شوق لمعرفة ما الذي أرادت أن تقوله هذه الأساطير إلا وذهبتُ إلى الأساطير الإغريقية، لأنّ طعوم الحياة ومعانيها رابحة فيها!

وما من توق لمعرفة الأسئلة الكبرى التي تدور في ثنائيات فضاءات الحياة والموت، والخير والشر، والسعادة والخلود، إلا وأخذني هذا التوق إلى فلسفة اليونان التي ساهرت الإنسان وأحلامه، والقيم وكيفية زراعتها في النفوس والمجتمعات.

وما من حروب أردتُ الوقوف على أسبابها ومراجعها، وما آلت إليه من نتائج، إلا وذهبتُ إلى الأساطير الإغريقية لأرى ماذا حدث بين إسبارطة وأثينا، وما من تتبع لبدايات المسرح العالمي، وإلا وأخذتني أخباره ومدوّناته إلى المسرح الإغريقي، فقد كان صورةً للحياة، وصورةً للقيم، وصورةً للأحلام.

لقد كانت معاني كلمة (الحضارة) معاني لصيقة باليونان، لأنّ الآداب والفنون والمعارف اليونانية جعلت العالم كلّه، في برهة زمنية مديدة، يدورُ حول ما يصدر عن اليونان. أقول هذا الآن، وأنا أهمّ بالحديث عن الفنانة اليونانية إيرين باباس (1926-2022) التي رحلت مؤخراً، ليس لأنّها فنانة عالمية، ذات شهرة واسعة فحسب، وإنما لأنّها تمثّل سلسلة إبداع جيلية تصل ما بين هوميروس وأرسطو وسقراط وما تبعهم من مبدعين، شأنها في ذلك شأن أعلام اليونان البارزين في الآداب والفنون، أمثال: نيكوس كازانتزاكي (1883-1957)، ويانيس ريتسوس (1909-1990)، وميكس ثيودوراكيس (1925-2021).

ولدت إيرين باباس سنة 1926، وهي فنانة اجتهدت كثيراً كي تصبح فنانةً مسرحيةً، كما اجتهدت كثيراً كي تصبح مغنيةً ذات أسلوب وحضور خاصين، واجتهدت أيضاً كي تصبح ممثلةً ذات صيت ومكانة، ولأنّ الاجتهاد درب المبدعين الأوفى، فقد وصلت (باباس) إلى أحلامها جميعاً، فغدت ممثلة مسرحية عالمية، اعتلت أهم خشبات المسارح العالمية في أوروبا، كما أصبحت مغنية شهيرة عرفتها المسارح الأوروبية عبر حضورها الآسر، مثلما أصبحت ممثلة سينمائية شهيرة. وقد عرفها الجمهور العربي عبر فيلمين مهمّين، أولهما، فيلم (أسد الصحراء- 1981) الذي جسّد سيرة البطل عمر المختار، قائد المقاومة الليبية ضد المحتل الإيطالي، فلعبت دور (مبروكة). هذا الفيلم الذي كتب أحداثه الأديب الفلسطيني المعروف جبرا إبراهيم جبرا (1920- 1994)، وأخرجه الفنان السوري العالمي مصطفى العقاد. وثاني أفلامها الذي شاهده المتفرّج العربي كان فيلم (الرسالة- 1976) الذي عُرض عبر نسختين إحداهما باللغة العربية، والثانية باللغة الانكليزية، وقد لعبت (باباس) دور (هند بنت عتبة)، وقد كتب أحداث هذا الفيلم الكاتب عبد الحميد جودت السحار، وأخرجه مصطفى العقاد أيضاً، وقدّمت (باباس) الدورين بأسلوب مذهل، الأمر الذي جعل مصطفى العقاد يقول عنها: لقد كانت باباس في الفيلمين أكثر من ممثلة.

والحق أنّ أهمية إيرين باباس ليست أهمية علوق بفنّها وحسب، وإنما كانت أهمية آتية من موقفها المناصر للقيم الوطنية والإنسانية، وفي مقدّمتها الحرية، لهذا كانت نصيرة للقضايا العربية عامة، والقضية الفلسطينية خاصة، ولكم حوربت باباس في أوروبا بسبب نصرتها هذه، فقد استُبعدت من بطولات مسرحيات وأفلام عالمية كثيرة من أجل الضغط عليها كي تنحني، وكي تغيّر مواقفها، شأنها في ذلك شأن الموسيقار اليوناني الشهير (ميكس ثيودوراكيس) الذي ناصر القضايا العربية، والقضية الفلسطينية، فلحقت به الأذياتُ، فسُجن وعُذاب ونُفي، كما حدث مثل هذا لباباس، لكن كلّ هذا لم يؤثر في مسار حياتها، ولا في مسار حياة (ثيودوراكيس) أيضاً. لقد التصقت باباس بمعاني الحرية، استناداً للفلسفة والأساطير اليونانية ومعانيها، وقالت باباس جهراً: سيعود الفلسطينيون إلى بلادهم مثلما عاد أديسيوس (في الأوذيسة) إلى بلاده (إيثاكا)، لقد عاد ملكاً، بعدما صادفته عقباتٌ كثيرة، والفلسطينيون سيعودون إلى بلادهم ملوكاً أيضاً.

Hasanhamid55@yahoo.com