مجلة البعث الأسبوعية

حقل “كاريش”.. المقاومة اللبنانية وعامل الردع

البعث الأسبوعية- د. ساعود جمال ساعود

تتزايد أهمية “حقل كاريش”، هذا الحقل الذي تتحدّد هويته بما يمتاز به من موارد طاقويه، في ظل الظروف الراهنة التي تمر بها لبنان، خصوصاً بعد دخولها في أزمة الفراغ الرئاسي، هذه الأزمة السياسية التي ما تزال تستعصي على الحل، تواكبت بممارسة الولايات المتحدة الأمريكية لجملة من الضغوط الاقتصادية على الشعب اللبناني، وتزايد المحاولات الإسرائيلية للعبث بأمن لبنان.

ليس الظرف المحلي للبنان هو العامل الوحيد في تزايد أهمية هذا الحق، وتأجيج النزاع عليه، بل إنّ للعامل الدولي دور هام لا يمكن استبعاده ولو تم المبالغه من تضخيم خطره، إذ أن القرائن على حدوث التأجيج بالترادف مع العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا كثيرة وهي قائمة على  مبادئ عملية ونظرية منها منطقية الفكرة، وكذلك الدراية العميقة بالخطط الصهيونية الأمريكية لدول الشرق الأوسط بشكل خاص، فعلى سبيل التمهيد والاستدلال، اتخذوا حقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، ونشر الديمقراطية حججاً للتدخّل والاجتياح غير الشرعي بتواقيت حساسة لتكون منطلقاً لسياسات جديدة، وللتأسيس لمراحل جديدة، وكثيراً ما كان التخطيط يتم بالتنسيق على صعيد المستويات المحلية والإقليمية والدولية في ظروف مواتيه لإطلاق مراحل سياسية جديدة.

تنبع أهمية هذا التوضيح من لزوم القول بعدم استبعاد أن تكون الإجراءات الإسرائيلية المعادية للبنان بدعم من قبل أمريكا وأوروبا، خصوصاً مع اشتداد زخم الأوضاع الاقتصادية في أوروبا وحاجتها الماسّة للغاز والنفط، وقلة البدائل عن النفط الروسي، الذي أحكم الخناق على دول أوروبا في إستراتيجيته القائمة على الضغط على نقاط الضعف الأوروبية. ولعل من الأمور التي كانت مرجحة فيما لو توجهت الأمور كما تريدها “إسرائيل” بأن تكون هي ذاتها أحد المزودين لأوروبا بالنفط والغاز، ولكن هذا مالم يحصل، ولكن لماذا؟!.

نعم، هذا مالم يحصل بعد افتضاح أمرهم، ولجوء حزب الله للتلويح بالقوة، الأمر الذي أدخل الخوف ومحاذيره الكثيرة في قلوب قادة الكيان الإسرائيلي، لا سيما في ظل إدراكهم لأهم المتغيرات الطارئة على عناصر قوة حزب الله بعد حرب الثلاث أيام مع المقاومة الفلسطينية التي لا تقاس قوتها بقوة حزب الله. إذاً من الطبيعي كان لجوءهم إلى تهدئه الخطاب العسكري، وتذرعهم بإمكانية الحلول السياسية.

ومما يجب الوقوف عنده هنا ما قاله وزير الطاقة الصهيوني بأن الخلاف حول كاريش شكلي، لأنّه بالأصل ليس ضمن منطقة النزاع، وهو كان يقود المفاوضات بنفسه ولكن استبعد، وقد يكون لكلامه دور في ذلك، ولكن من باب التفنيد ما الفائدة من كلامه على فرض أنّه صحيح لطالما أن “إسرائيل” تفرض نفسها بالقوة، وتحاول اثارة المشاكل حوله؟. لا فائدة، فالمشروع الإسرائيلي في استدامة اكتفائها الذاتي بالطاقات، وحماية نفسها من طوفان روسيا هو هاجسها الوحيد في الشرق الأوسط الذي تنظر له اليوم كمنطقة آمنة، ولعل كلام أحد قادتها:” لولا حزب الله لكان لبنان أنضم إلى أبرهام” ما يثبت نواياهم للمنطقة، واستماتتهم بزعزعة إيران التي لا يرون تهديداً سواها اليوم.

بالنسبة للبنان يكمن مأزقها الاستراتيجي اليوم بحاجاتها ومفرزات حاجاتها لعوائد حقل كاريش من النفط والغاز، خصوصاً في ظل الظروف التي تمر بها لبنان، الأمر الذي يقتضي أخذها لنصيبها من الحقل.

لعل أبرز ما يتضح بعد هذا المرور بأنّ “إسرائيل” كانت تخطط كالعادة لاستغلال الحقل بشكل كامل لمصلحتها بمعزل عن لبنان، لكن معادلة المقاومة التي تقف بحكم تكوينها الإيديولوجي من جهة، وبمقتضى الدور والوجود السياسي والعسكري والاجتماعي من جهة أخرى، ضد الكيان الصهيوني كانت السبب الجوهري لرضوخ “إسرائيل” إلى المفاوضات، والتباحث حول هذا الحقل.

إن عامل الردع الذي تسببت به المقاومة بسلاحها ومبادئها السياسية، وبوضعها للسيادة كعامل موجّه لها في كلامه المنطوق وأفعالها السياسية عملياً، جعلها طرف معادلة مكافئ للكيان الصهيوني، وهذا هو السبب الرئيسي في شاكلة الحل للخلاف حول حقل كاريش، الذي تجلّى بالتفاوض وليس الحرب كالمعتاد رغم المماطلة من قبل “إسرائيل” في الوقت، وهذا شيء غير مستغرب ولا ينطوي على ذكاء، لأن المؤكد أن “إسرائيل” ستحاول تحقيق أكبر قدر من المكاسب عبر ما ستبتدعه من وسائل قوامها الحيل والدعم الدولي، ويبقى المهم في هذه المناوشات إنّ صح التعبير هو جوهر المعادلة والتغيير الحاصل، وهو ما أتفق به مع ما قاله رئيس تحرير جريدة “البناء”:” إن دخول المقاومة على خلفية موازين القوى الحاكمة للتفاوض، لم يفرض تسارعاً وجدّية في حركة التفاوض مكان المماطلة والتسويف فقط، بل فرض إثبات القدرة على إحداث التوازن في معادلتي الاستخراج على طرفي الحدود، حيث كانت حكومة الاحتلال خلال السنوات العشر السابقة، تنقب وتتابع حفر وتجهيز الآبار وتستخرج النفط والغاز، بينما لبنان ممنوع من القيام بأي خطوة لصالحه، ولكن بعد اليوم سيكون للكلام والفعل مضمون أخر سببه حسابات “إسرائيل” وتوجساتها الاستراتيجية على وجودها ومصالحها”.