مجلة البعث الأسبوعية

العلاقة الإبداعية بين الأجيال

البعث الأسبوعية- سلوى عباس

تتباين الآراء وتختلف حول العلاقة الإبداعية بكل فنونها بين الأجيال، حيث لا نرى على الساحة الإبداعية السورية أو العربية نموذجاً أمثل لهذه العلاقة، بسبب أن ما أنتجه المبدعون الكبار لم يؤسس أصلاً لما هو قادم، بل حاولوا أن ينضجوا تجربة لم تلبث أن وقعت في مطب التكرار، إضافة إلى أن أغلب المبدعين الشباب نهلوا من المناهل ذاتها التي استقى منها أسلافهم، وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن الرغبة بالتأصيل والتجديد غائبة، فهناك من يرى أنه في مناخ أدبي غير معافى يصعب العثور على علاقات معافاة في الوسط الأدبي، وفي أنساق الأجيال فيما بينها، أو مع من سبقها أو تلاها، وربما تبرير ذلك يكمن في خصوصية الإبداع عموماً، حيث تنعكس هذه الخصوصية في وجدان المبدع نوعاً من النرجسية التي تتحول تدريجياً لدى البعض إلى أنانية مفرطة، ويصبح بموجبها كل ما قبله وما بعده عدم، وقد أفرزت السنوات الأخيرة من القرن الماضي وحتى الآن حالة متداخلة مازالت تتفاعل وتتواصل إرهاصاتها على الساحة الأدبية دون أن يعني ذلك أنه لا توجد في الساحة الإبداعية السورية تجارب شبه مكتملة وتجارب ناقصة وأخرى عبثية، ويبقى المهم فيما نقرأ اليوم وما يتهيأ للولادة من مخزون الإبداع والمبدعين ألا يتحول التجريب إلى غاية مطلقة لا ضوابط لها، ولا جدوى منها.ش

رأي آخر يهتم صاحبه بالمبدعين الجدد ويقرأ إبداعهم ويتابع أمسياتهم ويستفيد منها في تجرته الإبداعية انطلاقاً من أن الانصات إلى الآخرين وحده لا يكفي، بل ينبغي فهم شخصياتهم، فالأخطاء قد تكون كذلك عند البعض وقد لا تكون أخطاء عند البعض الآخر، وبالتالي قد لا تكون أحكامه قاسية بل وتحتمل نوعاً من المداورة، مع أنه يوجد شعراء سيئون وشعراء جيدون، بل وأصحاب مشاريع وهؤلاء الأخيرون يفضلهم على غيرهم، أما من حيث تأثيره على الشعراء الجدد فعلاقته إيجابية معهم، ويتفاءل بالوجوه الجديدة حتى ولو كتبوا بأسلوب مختلف عن كتابته، بل يعترف أنه كتب بأساليب تشبه ما يكتبونه ونشرها في أعمال الكاملة، لكنه بالمقابل يترك لهم حرية التواصل معه كما يرغبون حرصاً منه أن لا يتدخل بشؤونهم، إذ يجب أن يكونوا مسؤولين عن كتاباتهم وعن انتماءاتهم الفكرية والإبداعية.

وربما شهادة شاعر من الجيل الجديد حول العلاقة بين المبدعين تلخص العلاقة الحقيقية بين الأجيال الإبداعية إذ يقول صاحبها:

بدأت بداية خاطئة، لقد توهمت مطولاً أنني صديق لشعراء كبار قرأت لهم وتأثرت بهم، لا أرغب بذكر أسمائهم، وحين طرحت صداقتي عليهم وجدتهم محصنين خلف ستائر وسواتر حديدية مخفية، وكل قصائدي التي ظننت أنها فتح جديد في الشعر لم تحمل فيزا لشرف الانضمام ذاك، وأدركت أن المسألة ليست إبداعية بقدر ما هي مظاهرات حالمة تكسرت حالما اقتربت من الشعر، ولأنني بطبعي النزق لا أتحمل الصديق الأب، فقد بقيت بعيداً عن العلاقات مع الذين يكبرونني سناً، ولكنني أدركت متأخراً أن لي أصدقاء جميلين وكبار من الشعراء المخضرمين أعتز بهم.

رأي آخر أكثر تصالحاً مع الحالة يرى ان كل ما حاوره الآخرون يمثل الجمال الإنساني بكل لغاته، ولكن تبقى لكل منهم مسافته الزمنية التي يستطيع أن يعكس من خلالها أو يكتشف حقيقة وجمالية هذه الروح، ويستذكر قصاصات الورق الأصفر لرباعيات الخيام التي كانت اليد السحرية التي أيقظت عنده مايسمى الخاطرة أو الجملة النثرية، حيث أيقظ الخيام فيه حس التأمل الوجودي ونبهه لمعلومة هي الآن فلسفته في الحياة، فنحن نستطيع أن نقبض على الزمن بقيثارتين لا أكثر: قيثارة العشق وقيثارة اليقظة الوجدانية لرصد مدارات هذا الكون ورميها داخل أرواحنا الهاربة نحو المطلق، كما كان لابن الفارض والنفري أيضاً الدور المهم في رؤيته الصوفية للأشياء، كما أثرت في روحه كثيراً شفافية ونورانية سعيد عقل.

إن نظرة متأنية للعلاقة الإبداعية بين الأجيال من خلال رؤية كل منهم للإبداع والعلاقة مع الآخر نراها تحمل كثيراً من الطبيعة البشرية بكل نزقها ومتناقضاتها، ومن الطبيعي أن تتباين الآراء حول تلك العلاقة الملتبسة بين الأجيال بشكل عام وبين الأجيال الإبداعية بشكل خاص، وليس مطلوباً رؤية متطابقة تجمعهم لا بالإبداع ولا بالحياة إذا كنا نريد للإبداع أن يبقى متجدداً يحمل بصمات مختلفة تشكل طيفاً جميلاً لأزمان قادمة.