مجلة البعث الأسبوعية

خارطة طريق شابيرو لن تخلق “إسبرطة” دائمة العسكرة

البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة

لم يمض سوى أربعين يوماً على بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، حتى صرح الرئيس الأوكراني زيلينسكي للصحفيين، إن بلاده ستكون في المستقبل مثل “إسرائيل الكبرى”. وفي اليوم التالي، نشر أحد أكبر المروجين “لإسرائيل” في الحزب الديمقراطي مقال رأي في مركز أبحاث رسمي تابع لحلف الناتو مستعرضاً الطريقة التي يمكن من خلالها تنفيذ ذلك.

قدم زيلينسكي توقعاته أثناء حديثه إلى المراسلين في 5 نيسان الماضي، رافضاً فكرة أن تبقى كييف محايدة في النزاعات المستقبلية بين الناتو والاتحاد الأوروبي وروسيا. وبحسب زيلينسكي، لن تكون بلاده أبداً منزوعة السلاح مثل سويسرا، لكنها ستكون مثل ” إسرائيل الكبرى، بوجهها الخاص”.

بالنسبة لأولئك الذين يتساءلون كيف ستبدو “إسرائيل الكبرى” في الواقع، سرعان ما رد زيلينسكي بطريقة فظة: “لن نتفاجأ بأن يكون لدينا ممثلين عن القوات المسلحة أو الحرس الوطني في جميع المؤسسات والمتاجر ودور السينما. سيكون هناك أشخاص مسلحون، متنبئاً بحياة قاتمة لمواطنيه، وأنا واثق من أن موضوعنا الأمني سيكون رقم واحد في السنوات العشر القادمة”.

على الرغم من استناد المنشور على شبكة الإنترنت إلى التعليقات التي أدلى بها زيلينسكي للصحفيين، إلا أن مكتب الرئيس قام بشكل غامض بإزالة بعض من ملاحظاته التي أعلن فيها أن أوكرانيا المستقبلية لن تكون “ليبرالية أوروبية”.

لكن بالنسبة إلى سماسرة السلطة في حلف الناتو، ربما كانت رغبة زيلينسكي الكبيرة للإنضمام إلى التحالف العسكري هي الجانب الأقل أهمية في بيانه.

وبدلاً من ذلك، في غضون 48 ساعة على تعليقاته، نشر المجلس الأطلسي – وهو مركز أبحاث شبه رسمي لحلف الناتو في واشنطن – “خريطة طريق” توضح كيفية تحويل أوكرانيا إلى “إسرائيل كبيرى”.

كتب الوثيقة دانيال بي شابيرو، السفير السابق للولايات المتحدة لدى الكيان الإسرائيلي في عهد الرئيس باراك أوباما، مؤكداً أن البلدان اللتان مزقتهما الحرب تتشاركان أكثر مما تعتقد”.

تماماً كما قدم وزير الخارجية الأمريكي الأسبق ألكسندر هيج، “إسرائيل” على أنها “أكبر حاملة طائرات أمريكية في العالم لا يمكن إغراقها”، حيث طرح شابيرو تصوراً لأوكرانيا باعتبارها معقلاً عسكرياً للناتو سيتم تحديد هويته الوطنية من خلال قدرته على إبراز قوة الولايات المتحدة ضد روسيا.

إسرائيل وأوكرانيا.. ” صداقة قديمة”

على الرغم من عدم انضمام “إسرائيل” إلى حملة العقوبات الغربية ضد روسيا، فقد ساعدت أوكرانيا عسكرياً، حيث أرسلت شحنتين كبيرتين من المعدات العسكرية منذ شباط من هذا العام. وبالعودة لعام 2018، قدم أكثر من 40 ناشطاً في مجال حقوق الإنسان التماساً إلى محكمة “العدل” العليا في الكيان الإسرائيلي لوقف تسليح أوكرانيا بعد أن تم القبض على أعضاء كتيبة النازيين الجدد آزوف وهم يلوحون بأسلحة إسرائيلية الصنع.

كان من الواضح، أن تسليح “إسرائيل” لعناصر نازية في بلاده، لم تزعج زيلينسكي، فبعد عام واحد على انتخابه لعام 2019، قام بالحج إلى القدس لإطلاق ما أسماه “صلاة من أجل السلام”. وقبل ذهابه لحضور المناسبة، كان يشيد بممارسات الكيان الصهيوني، مشيراً في مقابلة معه إلى أن “الإسرائيلين تمكنوا من بناء “دولة”، والارتقاء بها، بالاعتماد على عقولهم”، مضيفاً أنهم “شعب موحد وقوي. وعلى الرغم من كونهم تحت التهديد إلا أنهم يستمتعون كل يوم، لقد رأيت ذلك “.

مضيفاً “هناك العديد من الدول في العالم تستطيع حماية نفسها، لكن “إسرائيل”، مثل هذه “الدولة” الصغيرة، لم تتمكن من حماية نفسها فحسب، بل يمكنها الرد على التهديدات الخارجية”، مضيفاً أنه زارها مرات عديدة.

كما علق في وقت لاحق من ذلك العام عبر رسالة تهنئة بعيد ميلاد رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بنيامين نتنياهو، بأن “الأصدقاء الأوفياء القدامى هم أكثر نفعاً من أي وقت مضى، أوكرانيا وإسرائيل لديهما صداقة كهذه “.

ومن الجدير  بالذكر، أنه منذ تصاعد القتال بين موسكو وكييف في شباط  من هذا العام، سافر عشرات الإسرائيليين إلى أوكرانيا للانضمام إلى الفيلق الأجنبي للدولة، حيث يظهر المزيد من الجنود الإسرائيليين في أوكرانيا، ممن هم على استعداد للقتال ضد الجيش الروسي.

في شهر آب الماضي، نشرت صحيفة “كييف إندبندنت” الكندية المدعومة من الحكومة الكندية تحقيقاً اتهمت فيه الفيلق الأجنبي الدولي الأوكراني بسرقة أسلحة وبضائع،  فضلاً عن التحرش الجنسي وأشكال أخرى من الانتهاكات.

في هذه الأثناء، يواصل زيلينسكي إشادته بتل أبيب، خاصة بعد قرار المحكمة العليا الإسرائيلية برفع القيود المفروضة على سفر المواطنين إلى أوكرانيا، مغرداً بأن سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان هو بالضبط ما يميز الديمقراطية الحقيقية المتطورة!”

دولة فصل عنصري شديدة العسكرة كنموذج لأوكرانيا

بحلول نيسان من عام 2022، وصل إعجاب زيلينسكي بالكيان الصهيوني إلى آفاق جديدة، فبعد إعلانه أن أوكرانيا ستصبح قريباً “إسرائيل الكبرى”، قدم مباشرة،  سفير واشنطن السابق في تل أبيب، دانيال بي شابيرو مخططاً لزلنسكي لتحقيق هذا الحلم في المجلس الأطلسي الذي يرعاه الناتو ومقره واشنطن العاصمة، يوضح أنه “من خلال تكييف عقلية بلادهم لفهم أوجه نهج “إسرائيل” في مواجهة التحديات الأمنية المزمنة، يمكن للمسؤولين الأوكرانيين مواجهة تحديات الأمن القومي الحرجة بثقة وبناء دولة مرنة مماثلة”.

يقدم المخطط التفصيلي المؤلف من 900 كلمة ثماني نقاط أساسية، توضح بالتفصيل كيف يمكن لأوكرانيا أن تصبح أشبه بـ “إسرائيل”، وهي التي وصفتها منظمة العفو الدولية مؤخراً بأنها “دولة فصل عنصري”.

جدير بالذكر، أن النقاط تضمنت نصائح مثل إعطاء “الأولوية للأمن”، والحفاظ على “هيمنة الاستخبارات”، والتذكر بأن “التكنولوجيا هي المفتاح”.

وبحسب شابيرو، فإن أحد المكونات المركزية للإستراتيجية الأمنية لـ “إسرائيل” هو أن “يلعب كل السكان دوراً”.

كتب شابيرو عن الإسرائيليين قائلاً: “يدرك المدنيون مسؤوليتهم في اتباع البروتوكولات الأمنية والمساهمة في القضية، بل إن البعض يسلحون أنفسهم للقيام بذلك. وتشير التعبئة الواسعة للمجتمع الأوكراني في الدفاع الجماعي إلى أن البلاد لديها هذه الإمكانيات “. تتوافق هذه التعليقات بشكل مباشر مع تنبؤات زيلينسكي بأن “الأشخاص الذين يحملون أسلحة” سيكونون حاضرين تقريباً في كل جانب من جوانب الحياة المدنية في أوكرانيا في المستقبل.

مثل الحملة الدعائية التي تروّج لـ نجاح “إسرائيل” كدولة أمنية، تصور مخطط شابيرو المواطنين الأوكرانيين الذين يوحدهم “هدف مشترك” بمساعدة “الاختراعات الجديدة في مجال التكنولوجيا المتطورة” من الكيان الصهيوني في قطاعي الجيش والاستخبارات. تصور خطتة التقدم الذي أحرزته “إسرائيل” في مجال الأمن باعتباره إنجازاً أسطورياً بسبب الروح الإبداعية لمواطنيها، متجاهلاً العوامل الأكثر أهمية والتي تتمثل بالمستويات غير المسبوقة من المساعدة العسكرية الأجنبية، لا سيما من الولايات المتحدة.

في الواقع، لولا دافعي الضرائب الأمريكيين الذين يدعمون جيشها فعلياً من خلال حزم مساعدات سنوية تصل إلى مليارات الدولارات التي لا حصر لها، فمن الصعب أن ترى كيف أن كياناً بحجم نيوجيرسي كان سيحصل على مكانة مركز تكنولوجيا المراقبة الرائد في العالم.

حتى عندما حث شابيرو زيلينسكي على الحفاظ على “شراكات دفاعية نشطة”، فقد قلل في الوقت نفسه من الدور الذي لعبته المساعدات الخارجية في الحفاظ على أنشطة “إسرائيل” الاستيطانية، بحجة أن “المبدأ الوحيد” الذي يخبر العقيدة الأمنية لتل أبيب هو أن “إسرائيل ستدافع عن نفسها، وحدها ولا تعتمد على أي دولة أخرى لخوض معاركها”.

في الحقيقة، يبدو أن شابيرو قد نسي هذا المبدأ عندما غرد، “الحمد لله تمتلك إسرائيل قبة حديدية”  في إشارة إلى نظام الهجوم الجوي الإسرائيلي الذي موله دافعو الضرائب الأمريكيون بما يصل إلى مليار دولار في عام 2021 وحده، بالإضافة إلى 3.8 مليار دولار من المساعدات العسكرية المخصصة لتل أبيب في ذلك العام.

في نصيحته إلى زيلينسكي، أكد شابيرو أيضاً أن “أوكرانيا ستحتاج إلى تعزيز أجهزتها الاستخباراتية” بطريقة مماثلة لـ “إسرائيل”، التي “استثمرت بشدة في قدراتها الاستخباراتية، لضمان وجود الوسائل لاكتشاف أعدائها وردعهم، وعند الحاجة، التصرف بشكل استباقي لضربهم “.

دبلوماسي أمريكي يقدم المساعدة لأكبر شركة تجسس

كان شابيرو يعلم الكثير عن جهاز المخابرات الإسرائيلي، ففي منتصف عام 2017، بعد أن اختار البقاء مع عائلته في فلسطين المحتلة، بدلاً من العودة إلى الدولة التي عينته كدبلوماسي، انضم إلى شركة “إن إس أو”  وهي أبرز شركات التكنولوجيا الإسرائيلية كمستشار مستقل. هناك، ساعد شابيرو في تقييم العملاء المحتملين لبرامج التجسس الرقمية المعروفة باسم “بيغاسوس”.

يتمتع شابيرو أيضاً بعلاقات وثيقة مع المخابرات الإسرائيلية من خلال معهد دراسات الأمن القومي  في تل أبيب، فخلال الجزء الأفضل لسنواته الأربع التي قضاها كـ “زميل زائر متميز” في المعهد، كان المدير التنفيذي للمعهد عاموس يادلين، رئيس الإستخبارات العسكرية السابق في جيش الهجوم الإسرائيلي. ساعد يادلين في استنباط مبدأ القوة غير المتناسبة التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي ضد غزة حيث أعيد تعريف المقاومين على أنهم ” إرهابيين”، وبالتالي جردوا من الحماية بموجب اتفاقيات جنيف.

في عام 2018 ، دفع معهد دراسات الأمن القومي  في تل أبيب لشابيرو، أكثر من 20 ألف دولار للإدلاء بشهادته أمام الكونغرس نيابة عنه، على الرغم من عدم تسجيله كوكيل أجنبي. وهنا لابد لنا من الإشارة، أن مجموعة “إن إس أو”، يحافظ معهد دراسات الأمن القومي على مظهر خادع من الإستقلال عن الحكومة الصهيونية على الرغم من أن مؤسسها، أهارون ياريف، كان أيضاً رئيساً للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية.

وفي الولايات المتحدة ، قضى شابيرو فترة في شركة ” ويست أدفايزر” ، وهي شركة استشارية أسسها في عام 2017 وزير الخارجية الحالي أنتوني بلينكين ووصفتها بوليتيكو بأنها “حكومة بايدن قيد الانتظار”. قبل انتخاب جو بايدن، قام شابيرو بتغطية وسائل الإعلام بعد أن أزال برنامج الحزب الديمقراطي الصياغة التي تعارض ضم المزيد من الأراضي في الضفة الغربية.

الحرب  جيدة لمانحي المجلس الأطلسي

ليس من قبيل المصادفة أن ينشر شابيرو وصفته لتحويل أوكرانيا إلى دولة أمنية على النمط الإسرائيلي بصفته “زميلًا متميزاً” في المجلس، فإذا تحولت أوكرانيا إلى الحصن العسكري الدائم الذي يتخيله مع وزيلينسكي، فإن الجهات المانحة لصناعة الأسلحة التابعة لمنظمة حلف شمال الأطلسي ستستفيد بشكل كبير.

وقد تم إدراج شركات مثل لوكهيد مارتن، بيثيون، رايثيون، بوينغ ضمن كبار المستفيدين من المجلس الأطلسي في عام 2021، كما صادف أن رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي لشركة رايثيون، جريجوري جيه هايز، كان عضواً في المجلس الاستشاري الدولي لمركز الأبحاث، فقد عمل المجلس الأطلسي أيضاً كأداة لتبيض الأموال لصالح أعضاء الدائرة الداخلية لبايدن.

لقد جنت شركات الأسلحة الثلاث المذكورة أعلاه، والتي تشكل قلب المجمع الصناعي العسكري في واشنطن، أرباحاً ضخمة من الحرب في أوكرانيا، فشركة بوينغ، التي واجهت أزمة علاقات عامة بعد حدوث أعطال في نظام تشغيل طائرة 737 ماكس نتج عنها حادثان بارزان، يمكن أن تكون في طريقها لاستعادة مكانتها كأكبر شركة مصنعة للطائرات في العالم نتيجة للصراع.

على الرغم من أن شركة بوينغ تكبدت خسارتين فصليتين على التوالي في عام 2022، إلا أنها ادعت بحلول تموز الفائت أنها “تبني قوة دافعة” للانتعاش. وفي حزيران الماضي، حصلت شركة الطيران العملاقة على عقد لتزويد الحكومة الألمانية بطائرات هليكوبتر ثقيلة بعد أن أنشأت برلين صندوقاً بقيمة 107 مليار دولار للاستثمار العسكري كاستجابة مباشرة لحرب أوكرانيا.

في هذه الأثناء، تصنع كل من رايثيون، و لوكهيد مارتن نظام الصواريخ جفالين المضاد للدبابات الذي أطلق عليه “رمز المقاومة الأوكرانية” في ساحة المعركة. وقد أرسلت الولايات المتحدة أكثر من 8500 من أنظمة جافلين المضادة للدبابات إلى أوكرانيا منذ شباط بتكلفة تقدر بنحو 178 ألف دولار، وفقاً لميزانية البنتاغون لعام 2021. كما تسعى شركة لوكهيد مارتن إلى مضاعفة الإنتاج، بهدف تصنيع 4000  صاروخ من نظام جفالين سنوياً. وقد ارتفع رصيد مخزونات شركة لوكهيد 2022 بأكثر من 20 في المائة عن العام السابق، ووصلت إلى ذروتها بعد أسبوعين فقط من بدء العملية العسكرية الروسية.

على غرار “خارطة طريق” شابيرو التي يرعاها حلف الناتو لتحقيق النجاح، سيتطلب خيال زيلينسكي المتمثل بوجود أسبرطة دائمة العسكرة وعالية التقنية، مدعومة بسكان مدنيين مدججين بالسلاح استثماراً هائلاً في الأسلحة وتكنولوجيا المراقبة من جانب الحكومة في كييف.

إذا كانت هذه الحرب مؤشراً، فمن المحتمل أن تنظر أوكرانيا إلى الجهات المانحة لمجلس الأطلسي مرة أخرى وهي تغامر بتحقيق حلم زيلينسكي في إقامة “إسرائيل الكبرى” على حدود روسيا.