مجلة البعث الأسبوعية

“أوكرانيا” استدراج عروض جديدة لبيع السلاح الأمريكي

البعث الأسبوعية – طلال ياسر الزعبي:

تصرّ واشنطن على تسعير نار الحرب في أوكرانيا بشتى الوسائل والسبل، دون اكتراثٍ على الأرجح بإمكانية توسّع هذه الحرب لتشمل القارة الأوروبية بأكملها، وتحت ستار دورها المزعوم في التحالف القائم مع الدول الأوروبية عبر منظومة حلف شمال الأطلسي، تحاول أن تقنع الدول الأوروبية بضرورة دعم النظام الأوكراني حتى النهاية، وهذا ما يُعرب عنه المسؤولون الغربيون في جميع المناسبات.

 

ليس إضعاف روسيا فحسب

وربما يقول قائل: إن غاية الولايات المتحدة من ذلك بالفعل هي إضعاف روسيا وهزيمتها استراتيجياً، وهذا بالطبع هدف رئيس من أهداف تسعير الحرب في أوكرانيا، ولكن هذا الهدف لا يمثل بالطبع رأس الهرم بالنسبة إلى أهداف الولايات المتحدة من تحريض الدول الغربية على روسيا.

فالمراقب للسياسة الأمريكية في هذا المجال يجد أنها تحاول حقيقة الموازنة بين إضعاف الدول الأوروبية من جهة، وإضعاف خصمها الروسي من جهة ثانية، بل إن الإدارات الأمريكية المتعاقبة تعلم علم اليقين أنه كما ينبغي أن تكون مملكة آل سعود في الخليج مثلاً بقرة حلوباً تدرّ الأموال على الشركات الأمريكية، فإن من الطبيعي أن تحتفظ الشركات الأمريكية ببقرة حلوب في كل منطقة من العالم تؤمّن لها سوقاً لتصريف منتجاتها، سواء أكانت هذه المنتجات استهلاكية أم عسكرية أم حتى نفطية معادة التصنيع.

 

وقاحة ترامب فضحت الغاية

ويبدو أن أحد الأسباب الذي دفع الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى لفظ الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، هو وقاحته الشديدة في الإعلان عن هذه السياسة الأمريكية حول العالم، عندما صرّح بأن على مملكة آل سعود أن تدفع ثمن الحماية التي تؤمّنها لها واشنطن، سواء عبر مدّها بالسلاح الأمريكي أم عبر ادّعاء حمايتها بنشر أساطيلها حولها، وكل ذلك تحت أكذوبة التحالف، والأمر في الحقيقة لا يتعدّى كونه أسلوباً من أساليب الإدارات الأمريكية المتعاقبة في ابتزاز من تسمّيهم حلفاء حول العالم.

 

البروباغندا حاضرة

فكما استطاعت هذه الإدارات إقناع دول الخليج بتحويل بوصلة الصراع من “إسرائيل” الكيان المحتل الغريب عن المنطقة، إلى إيران الجار التقليدي القديم الذي تربطه بالمنطقة كل روابط التاريخ والجغرافيا والمصالح والدين وحتى العادات، فإنها في الجانب الأوروبي استطاعت عبر تاريخ طويل من تشويه الحقائق وتزوير التاريخ إقناع الدول الغربية بأن عودة النازية الجديدة إلى الحكم في أوروبا خير من التعايش مع روسيا التي ترغب في مدّ إمبراطوريّتها إلى هذه الدول الصغيرة والسيطرة عليها، وخاصة الدول المنتمية سابقاً إلى حلف وارسو، على اعتبار أنها خرجت حديثاً ممّا كان يسمّى المعسكر الاشتراكي وانضمّت إلى منظومة الغرب الرأسمالي عبر ما يسمّى الاتحاد الأوروبي، الذي يدّعي أن لديه قيماً ومفاهيم خاصة بالديمقراطية لا توجد لدى سائر شعوب القارة الأوروبية ومن بينها روسيا طبعاً.

تحت هذه العناوين كافة تمكّنت واشنطن من إقناع من تسمّيهم حلفاءها الأوروبيين بأن لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أحلاماً توسّعية تدفعه إلى التفكير دائماً باحتلال أوروبا والسيطرة عليها، وحتى الدول التي عانت سابقاً، شأنها شأن روسيا، من النازية وقدّمت ملايين الضحايا في سبيل التخلّص من النازية، تحوّلت الآن إلى داعمة للنازية الجديدة الناشئة في أوكرانيا في مواجهة روسيا تحت ضغط الدعاية الغربية الرامية إلى تشويه سمعة روسيا وشيطنتها ونشر مفهوم “روسوفوبيا” في الغرب، وذلك من أجل إجبار المجتمعات الغربية على محاربة روسيا والاستعانة بالحليف الأطلسي الولايات المتحدة الأمريكية في سبيل هزيمة الدب الروسي الذي يسعى حسب هذه البروباغندا إلى ابتلاع أوروبا.

كل ذلك سوف يبرّر بالمحصلة سعي الدول الغربية، والأوروبية خاصة، بشكل محموم، إلى دعم النظام الأوكراني الذي تمّت صناعته في أوكرانيا بتخطيط واضح من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ليكون رأس حربة في استهداف روسيا التي تمثل واحداً من الخصمين الرئيسين للولايات المتحدة في العالم وهما روسيا والصين، حسب الاستراتيجية الأمريكية المعلنة على الأقل.

 

تغيير عقيدة الجيوش

ومن هنا راحت الدول الأوروبية تتسابق في إرسال الدعم العسكري للنظام في كييف لدرجة أصبحت فيها مخازن سلاح هذه الدول شبه خالية من السلاح، الأمر الذي يدفعها بالمحصّلة إلى البحث عن الأسواق العالمية القادرة على تعويض نقص هذا المخزون من السلاح، وبالنسبة للدول الأوروبية طبعاً ستكون سوق السلاح الأمريكية هي الأقرب، وهذا ما يجعل شركات السلاح الأمريكية تعمل بكامل طاقتها لسدّ الطلب الأوروبي على السلاح الأمريكي، وخاصة أن وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” بالتعاون مع شركات السلاح الأمريكية هي التي تحدّد بالمحصلة نوعية السلاح الذي يحتاج إليه النظام الأوكراني، وبالتالي فإن على الدول الأوروبية أن تتجه لشراء السلاح الذي يحدّده خبراء الحرب الأمريكيون، ولذلك عمدت الإدارة الأمريكية منذ بداية الحرب في أوكرانيا إلى إفراغ مخازين السلاح الأوروبية من السلاح السوفييتي السابق لتغيير عقيدة الجيوش في شرق أوروبا أولاً، ثم لإجبارها ثانياً على الاتجاه إلى سوق السلاح الأمريكي الذي سيكون بديلاً طبيعياً للسلاح الروسي، وفي هذا تكون الإدارة الأمريكية قد استدرجت عروضاً جديدة لبيع أسلحتها في أوروبا الشرقية.

 

المال والقمح في خدمة السلاح

ثم إن على الدول الأوروبية التي تعيش أزماتٍ اقتصادية حالية على خلفية العقوبات الغربية المفروضة على روسيا وآثارها الكارثية على اقتصاداتها، أن تدفع فائض السيولة الموجود لديها عبر سنوات طويلة من الادّخار و”الحماية الأمريكية” المزعومة لشراء فائض السلاح الأمريكي خدمة للحرب التي خطّط لها الحليف الأطلسي وأدارها بعناية من الضفة الأخرى للمحيط، كما أن على النظام في كييف أن يقوم بإفراغ مخازينه من الحبوب تحت عنوان شراء السلاح الأمريكي، خدمة للدول الغنية، حيث ثبت حتى الآن أن نحو 3% فقط من القمح الأوكراني قد اتجه إلى الدول الفقيرة، بينما استحوذ الغرب الرأسمالي على الحصة الكبرى من هذا الغذاء الذي لا يحتاج إليه أساساً لأنه ينتجه بالفعل.

 

كل الدروب تؤدّي إلى روما

ولذلك فإن صفقات السلاح الأوروبية على اختلاف وُجهاتها ستصبّ في المحصّلة في خزينة شركات السلاح الأمريكية حتى لو تمّ شراؤها من دول أخرى، لأن الشركات الأمريكية إما مساهم فيها وإما صاحبة تكنولوجيا تصنيعها، وهي في كلتا الحالتين تخدم الغرض الأساسي، وهو فرض سباق تسلّح جديد على دول العالم سيكون المستفيد الأول منه شركات السلاح الأمريكية، شأنها شأن سائر الشركات الأمريكية التي استفادت من الأزمة المركّبة التي صنعتها العقوبات الغربية المفروضة على روسيا والحرب في أوكرانيا، كشركات النقل والتأمين والشحن والطاقة.

فالسلاح الكوري الجنوبي الذي اشترته بولندا على خلفية خوفها من الدخول في حرب مباشرة مع روسيا، والسلاح الأمريكي الذي يتم نشره على مستوى واسع في الدول الأوروبية على خلفية الخوف من “غزو روسي” محتمل لأوروبا، إلى جانب سباق التسلّح التقليدي والنووي الذي تم الدفع إليه في منطقة المحيط الهادي عبر تزويد أستراليا بالتكنولوجيا النووية، في خرق واضح لمعاهدة حظر الانتشار النووي، فضلاً عن السلاح الأمريكي المرسل إلى تايوان تحت عنوان الدفاع عن الجزيرة، كل ذلك سيخدم بالمحصلة شركات السلاح الأمريكية المتعطشة طبعاً إلى الأموال للاستمرار في إنتاج السلاح لإنقاذ الإمبراطورية الأمريكية المتهالكة التي تأسّست أصلاً على الدماء والنهب والدمار.

لذلك تعمل الإدارة الأمريكية جاهدة على صناعة الأزمات والحروب في العالم خدمة لمصالحها، وبالتالي فإنها تعلم كيف تجعل المال العالمي يتوجه إلى خزائنها، وفي المثال الأوكراني يصبح المال الأوروبي في خدمة الشركات الأمريكية، والسلاح على رأسها.