دراساتصحيفة البعث

تحطم أسطورة التوازنات الأمريكية

عناية ناصر

تُعتبر آلية الضوابط والتوازنات بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية للحكومة الأمريكية، والمصممة أصلاً لمنع إساءة استخدام السلطة، مثالا رئيسيا  للنظام الديمقراطي الحديث، إلا أن الولايات المتحدة وجدت نفسها في السنوات الأخيرة  تتصارع مع هذا التصميم السياسي الذي كانت فخورة به للغاية ذات يوم. وبسبب الاقتتال الحزبي العميق، تستميت كل من السلطات الثلاث لتدقيق وتقليص كل اقتراح مقدم  من أي سلطة أخرى، تاركين فكرة التوازن كخرافة مستحيلة.

جاء هذا الخلل والانقسام بين السلطتين التنفيذية والتشريعية عندما تحولت العلاقة بين الإدارة الجمهورية بقيادة الرئيس السابق دونالد ترامب، والكونغرس بقيادة رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي إلى عداء شديد. فمنذ توليه منصبه، كان ترامب مهووساً بوعده في حملته الانتخابية ببناء جدار على طول الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، لكن الكونغرس لم يشارك ترامب طموحه الكبير.

منذ نهاية عام 2018 وحتى بداية عام 2019، أدى الخلاف والمواجهة المستمرة بين الكونغرس والحكومة الفيدرالية حول تكلفة بناء الجدار إلى منع بعض الإدارات من الحصول على مخصصات من الكونغرس، مما أدى إلى إغلاق تاريخي للحكومة لمدة 35 يوماً. والأكثر من ذلك، لا يبدو أن الجانبين يهتمان بالتأخير، وعدم الكفاءة الناجمة عن “الإغلاق”، واستمرا في التعبير عن عداءهما في كل مناسبة ممكنة. على سبيل المثال، منعت بيلوسي ترامب من إلقاء خطاب في مجلس النواب، بينما ألغى ترامب، في رد انتقامي، استخدام بيلوسي لطائرة عسكرية في زيارة مقررة إلى مناطق القتال الأمريكية في أفغانستان.

في أوائل عام 2020، أصبح يتصرف كلاهما بطريقة غير مهنية وطفولية لدرجة أن ترامب رفض مصافحة بيلوسي، وقامت بيلوسي بتمزيق نسختها من خطاب حالة الاتحاد أمام الكاميرات. لقد اشتد الخلاف حول أمور تافهة بين ترامب وبيلوسي منذ ذلك الحين، وغالباً ما كان يتم نشر أخبار  الشخصيتين في عناوين الأخبار بطريقة كوميدية، الأمر الذي أدى إلى إغلاق فرص التعاون الضعيفة بالأساس بين فرعي الحكومة. ومع وصول الرئيس الديمقراطي جو بايدن إلى السلطة، لم يتم إنهاء الخلاف الجاري بين الحكومة والكونغرس، بل امتد إلى الفرع الثالث، المحكمة العليا.

وفي هذا الخصوص، أثارت الأحكام الثلاثة الأخيرة الصادرة عن المحكمة العليا، بما في ذلك إلغاء الحق في الإجهاض الذي كفله الدستور لما يقرب من نصف قرن، وإلغاء قانون نيويورك الذي يضبط استخدام الأسلحة في الأماكن العامة، وتقييد سلطة وكالة حماية البيئة الأمريكية في فرض تخفيضات انبعاثات الكربون، ضجة كبيرة و احتجاجات واسعة النطاق. فمع تغلغل الحزبية إلى الفرع القضائي، وتعرض الرفاهية العامة للخطر، حطمت الموجة الأخيرة من الأحكام المحافظة أسطورة الضوابط والتوازنات. وفي الممارسة الفعلية، لم يعد الفصل بين السلطات يعكس توازن القوى، بل تحول إلى أدوات سياسية لمعارك حزبية غير مبدئية ولا نهاية لها.

المفارقة أن إلقاء اللوم على فصل السلطات أصبح ذريعة ضمنية يستخدمها الطرفان كأسلوب استفزازي، وفيما يتعلق بالمسألة المعقدة المتعلقة بزيارة بيلوسي لجزيرة تايوان، نقل البيت الأبيض المسؤولية إلى الكونغرس من خلال الادعاء بأنه فرع مستقل. الحقيقة هي أن بيلوسي لا تستطيع أن تأخذ طائرة عسكرية أمريكية إلى تايوان أو أن ترافقها القوات البحرية والجوية الأمريكية دون موافقة البيت الأبيض، أي أن الولايات المتحدة استخدمت نظام الضوابط والتوازنات كذريعة لسلوكها الاستفزازي في مسألة تايوان، بحيث بعد كل ذلك لا أحد يريد أن يتحمل مسؤولية إثارة حرب محتملة.

في بداية عام 1796، أخبر جورج واشنطن، أول رئيس أمريكي، الأمريكيين أن الأحزاب السياسية هي العدو الأسوأ، لكن لم يكن يتخيل أجداد الولايات المتحدة أبداً أنه، بعد أكثر من مائتي عام، سينتهي نظام الضوابط والتوازنات بهذه الطريقة، فهو لم يفصل بين سلطات السلطات الثلاثة للحكومة الأمريكية فحسب، بل مزق أيضاً الولايات التي ليست متحدة.