دراساتصحيفة البعث

حرب تشرين التحريرية.. ملحمة العرب في العصر الحديث

محمد غالب حسين 

حرب تشرين التحريرية الخالدة التي كانت قمم جبل الشيخ، وبطاح الجولان، وتراب القنيطرة، مسرحاً لأحداثها وأمجادها، كتب فيها جنودنا الأبطال صفحات خالدة من دم وعنفوان وبطولات في تاريخ وطنهم.

إن حرب تشرين التحريرية تحدّث عنها كثير من الباحثين والقادة العسكريين والاستراتيجيين واعتبروها ملحمة العرب الكبرى في العصر الحديث، لأنها أعادث الثقة لأبناء الأمة العربية بأن النصر على العدو الصهيوني قد تحقق عندما توفرت القيادة الحكيمة، والاستعداد والإعداد والتدريب، حيث صاغ الجيش العربي السوري نصر الوطن ببطولات عزّ نظيرها.

وفي ذكراها لابدّ من استذكار المعاني والدلالات والإنجازات التي زخرت بها الحرب، وما زال أثرها وتأثيرها حاضراً فاعلاً في التطورات السياسية التي تشهدها المنطقة العربية. لقد أحدثت حرب تشرين التحريرية آثاراً ونتائج كبيرة للغاية، هزت العالم أجمع من مغربه إلى مشرقه، وأصبحت نظرة المجتمع الدولي إلى العرب بعد حرب تشرين المجيدة، تختلف عن نظرته السابقة إليهم، لاسيما تلك التي خلفتها حرب حزيران عام 1967.

حرب خالدة

حرب تشرين التحريرية كانت ولا زالت صفحة مشرقة في تاريخ أمتنا العربية، وحدثاً فريداً ونقطة تحوّل عظمى في تاريخ الصراع العربي -الإسرائيلي، وستبقى الأهداف التي قامت من أجلها حرب تشرين محركاً قوياً للنضال العربي، على الرغم من المحاولات التي بُذلت وتُبذل الآن لإجهاض نتائج هذه الحرب، فجاء تشرين التحرير اليوم وعادت قصص البطولة لتروي ذكريات لا تُنسى، لتبقى سورية التي خاضت ودعمت جميع الحروب وعمليات المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، والاعتداءات الغربية عنواناً للصمود والمقاومة، ومثالاً للتضحية والاستعداد لبذل الدماء المطلوبة، لتحقيق الانتصارات ورسم مستقبل مشرق لجميع العرب والأحرار في منطقة أراد الغرب على الدوام الهيمنة عليها. وحين نستعيد الماضي لا نفعل ذلك لمجرد الحديث عن ذكريات جميلة، وأيام مليئة بالانتصارات، ولكن لدروس عميقة وعِبر هامة يحملها في صفحاته المشرقة، حين ولدت الكرامة فيها بأيام مشرفة من تاريخ سورية.

قرار الحرب

ولعل القضية الأساسية الأهم في حرب تشرين التحريرية هي أن زمام المبادرة قد انتزع من يد العدو الإسرائيلي لأول مرة في تاريخ العرب الحديث، فالقرار التاريخي الذي اتّخذه القائد المؤسس حافظ الأسد، والرئيس المصري ببدء الحرب في يوم العاشر من رمضان الموافق للسادس من تشرين  الأول عام 1973م، يُعتبر القرار الأكبر والأعظم شأناً في تاريخ العرب المعاصر، لأن الأمة العربية مافتئت تتلقى الضربات الموجعة الغادرة منذ مطلع القرن العشرين، وعلى وجه التحديد منذ “وعد بلفور” الصادر في الثاني من شهر تشرين الثاني 1917م، وحتى أوائل السبعينيات، وها هي اليوم تنهض على قدميها، قدم في مرتفعات الجولان وقدم في شبه جزيرة سيناء، لتوجه لأعدائها الصهاينة ضربتين متزامنتين، واحدة على الخد الأيمن والثانية على الخد الأيسر، وتنبه الرأي العام العالمي إلى أن العرب هم أصحاب الحق والأرض والبيت الحقيقيون.

تأثيرات الحرب عسكرياً

لعل أول ما يتبدى للباحث في حرب تشرين التحريرية هو قيمة الإنسان العربي الحقيقية، ذلك أن اقتحام حصون العدو، هذا الاقتحام البطولي لخط آلون في الجولان، وتحطيم جنود مصر البواسل لخط بارليف وعبور قناة السويس، برهنا للعالم أجمع على أن الإنسان وحده هو الذي يصنع التاريخ، وأن أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لايقهر هي كذبة صهيونية كبرى. ولعل أفضل ما قيل عن ذلك ما ورد على لسان القائد المؤسس حافظ الأسد في مقابلة صحفية لجريدة الأنوار اللبنانية : “إن الأمثلة على شجاعة جنودنا وتضحياتهم لاعدّ لها ولا حصر. لقد كان الهدف دائماً ومنذ بداية المعركة هو تدمير أسطورة الجيش الذي لايقهر والقوة التي اعتقدوا أنها فوق مستوى الإنسان العربي مناعة وتجهيزاً وكفاءة قتالية. وقد جاءت حرب تشرين التحريرية لتعيد إسرائيل إلى حجمها الطبيعي على الجبهتين المصرية والسورية”.

وأثبتت حرب تشرين أن الإنسان العربي يحسن استخدام الأسلحة المتطورة، وانتهينا إلى الأبد من عقدة “التكنولوجيا” التي حاولت “إسرائيل” بكل أجهزة الإعلام التي تملكها وتوجهها الصهيونية العالمية، غرسها في النفوس. إن المفاجأة على الصعيد الإستراتيجي باتخاذ قرار خوض الحرب ضد الغزاة الصهاينة الذين يدنسون ترابنا الوطني باحتلالهم البغيض، هي التي زعزعت المؤسسة العسكرية الصهيونية.

أما بالنسبة لاقتحام الجولان فإن أبلغ صورة تلك التي قدمها القائد المؤسس حافظ الأسد عندما قال: “تصور جبهة جبلية عرضها سبعون كيلو متراً وعمقها أقل من ذلك بكثير، يحتشد فيها ألفان وخمسمائة دبابة وألوف المدافع وعشرات الألوف من الجنود المجهزين بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً، ابتداءً بالبندقية والرشاش، ومروراً بالقنابل المحرقة والمدمرة، وباصقات اللهب، وانتهاءً بالإضافة إلى مئات الطائرات القاذفة والمقاتلة وطائرات الهيلوكبتر التي كان لها الدور البارز في المعركة. تصور قتالاً شرساً يدور في هذه الجبهة الضيقة ويستمر نهاراً وليلاً طوال أيام، وقد التحم فيه البشر كما التحمت الدروع وسط بركان يتفجر بكل أنواع الحمم، وتتساقط عليه حمم الطائرات، وهي أيضاً من كل نوع، فلا يبقى شبر من الأرض بلا نار وحطام وضحايا، ولا فسحة من الفضاء، لا تغطيها طائرة مغيرة أو مجموعة قنابل في طريقها إلى الانفجار. ثم ينكشف ذلك كله عن أرض غُطيت كلها بالحديد والدم. هذه هي معركة الجولان التي خاضها جيش سورية وسجل فيها أروع ما في تاريخ الحروب، قديمها وحديثها من بطولات وتضحيات. لانتعدى الواقع إذا قلنا أنها أشبه بالأساطير”.

وأخيراً إن أهم نتائج حرب تشرين التحريرية على الصعيد العسكري هي أننا أرسينا قاعدة راسخة تصلح لأن تكون قاعدة للانطلاق إلى ما هو أفضل. وذلك أن الصراع مع العدو الصهيوني لايمكن أن ينتهي وثمة أرض عربية مازال يحتلها.

تأثيرات الحرب على العدو الإسرائيلي

عاشت “إسرائيل” قبل حرب تشرين “قوة” مسيطرة على المنطقة، يتدفق عليها سيل من المهاجرين يستوطنون مناطق جديدة واسعة، واعتقدت من الاختبارات التي أجرتها بقصف المدن والقرى العربية في سورية ومصر ولبنان والأردن، أن ليس هناك قوة تردعها، و”أن “حدود إسرائيل” ستبقى مجمدة، و”لن تنشب حرب”، كما قال دايان. وإن العرب لن يستطيعوا أن يحرروا بوصة واحدة، كما قال آلون. وأطمأنت بالتجربة إلى عدم فعالية الضغط الدولي، وفي آن واحد إلى قدرتها على تجاوزه بعد عملياتها العداونية المتكررة.

في ظل هذه الأفكار التي سيطرت على عقلية السلطات الإسرائيلية وتصرفاتها واطمئنان المؤسسة العسكرية إلى عدم تجرؤ الجيوش العربية على مهاجمة “إسرائيل”، نشبت حرب تشرين التحريرية، فكانت المفاجأة الكبرى حين حطّم الجيش السوري والمصري هذا الاعتقاد الخاطئ في قيامهما بتنفيذ العملية الهجومية بوقت واحد وبتخطيط واحد وبتعاون كامل.

تأثيرات الحرب عربياً

لقد أحدثت حرب تشرين التحريرية هزة عميقة في الوجدان العربي، وعاد الذين كفروا بأمتهم العربية في أعقاب حرب حزيران 196700 إلى جادة الإيمان، وأيقنوا أن هذه الأمة مازالت قادرة على العطاء.

ولعل أهم النتائج التي حققتها حرب تشرين التحريرية، هي تحرير الإرادة العربية، وتخليص الشعب العربي من شوائب الضعف واليأس التي علقت به بعد حرب حزيران 1967م. و كما قال القائد المؤسس حافظ الأسد: “نعم لقد حررت الحرب نفس الإنسان العربي من بذور الشك والريبة وسموم القلق والخوف، وأعادت إليه ثقته بنفسه واعتزازه بشخصه وأمته وارتباطه بأمسه ويومه وغده، وحلت عقدة الذنب والشعور بمرارة الهزيمة والتقصير، وأحيت في أعماقه الأمل والرجاء، وبعثت فيه القوة والجرأة، والقدرة على الصمود والتحدي والفعل”.

ومن نتائج حرب تشرين على الصعيد العربي الواسع أنها حررت الأجيال العربية من عقدة التكنولوجيا الحديثة بعد أن ثبت أن بإمكان الجيوش العربية أن تستخدم الأسلحة الحديثة والمعقدة بمهارة ونجاح، وأن تستوعب أسرارها وتحيط بالتقنية العسكرية التي كان العدو الإسرائيلي يدعي احتكارها.

وكان من مكاسب معركة تشرين استعمال العرب النفط سلاحاً فعالاً في المعركة، وكان للتدابير التي اتخذتها الأقطار العربية المصدرة للنفط دور بارز في دفع المجتمع الدولي للتحرك باتجاه تنفيذ الحل العادل للنزاع العربي – الإسرائيلي. لقد كشفت حرب تشرين النقاب عن أن ثمة إمكانات واسعة، على العرب أن يولوها اهتمامهم، على صعيد الثروات الطبيعية الضخمة، وعلى رأسها الثروة النفطية التي تملكها الأقطار العربية.

أجل لقد برزت في ميدان المعركة حقيقة ناصعة هي أن العرب أمة واحدة، من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، وأن امتزاج دماء الأبطال الذين هرعوا من معظم الأقطار العربية، سواء القريبة من مسرح الأعمال القتالية أو البعيدة، للمشاركة في القتال إلى جانب أبناء سورية ومصر إنما هو الدليل القاطع على أصالة هذه الأمة وإصرارها على التمسك بوحدتها في ساعة الخطر.

تأثيرات الحرب دولياً

كان لحرب تشرين التحريرية دور بارز على الصعيد الدولي، وأحدث تغييرات أساسية في مواقف الكثير من دول العالم، ومن أهم نتائج حرب تشرين أن العالم أصبح ينظر بغير العين التي كان ينظر بها للعرب بعد حرب حزيران 1967م. ذلك أن المجتمع الدولي لايمكن أن يتحسس بقضية نام أصحابها لا يحركون ساكناً. لذلك عندما هبّ العرب في السادس من تشرين 1973 لتحرير أرضهم، استفاق المجتمع الدولي الذي شعر بتقصيره حيال الأمة العربية بعد هزيمة حرب الخامس من حزيران 1967م. لقد أحدثت الحرب بين العرب وإسرائيل تأثيرات جمة في الساحة الأوربية والعالمية.

تأثيرات الحرب عسكرياً

أحدثت حرب تشرين التحريرية انعطافاً هاماً على صعيد “فن الحرب”، ذلك أن الطرفين المتصارعين استخدما أحدث صنوف الأسلحة وأكثرها تطوراً. كما أن المعارك العديدة التي دارت على جبهتي الجولان وقناة السويس تكوّن في حد ذاتها انعطافاً حاسماً في العلوم الحربية والعسكرية خاصة بمجال معارك الدبابات، وتدّرس اليوم معارك تشرين التحريرية في المعاهد والأكاديميات العسكرية.

فلم يعد لسلاح الطيران على أهميته، القول الفصل في الحروب، وأصبح الدفاع الجوي الذي يعتمد على شبكة كثيفة من الصواريخ الموجهة الذكية قادراً على التصدي لطيران العدو، ومنعه من تحقيق مهمته وتدميره إذا أصرّ على التنفيذ. كذلك دلت حرب تشرين على أن لوقاية الطائرات في الملاجئ دوراً بارزاً في حماية سلاح الطيران من أية مفاجأة غير محسوبة. وتميزت حرب تشرين بالبروز الهائل لدور الصواريخ المضادة للدبابات والموجهة الكترونياً، وقد أحدثت هذه الصواريخ في الطرفين المتصارعين إصابات بليغة في الدبابات والعتاد المدرع.

لقد شهدت حرب تشرين لاسيما في مرتفعات الجولان أكبر معارك الدبابات في العالم، ولم يحدث في التاريخ أن هوجم الدفاع المعادي بـ 770 دبابة، تزج في آن واحد ومن طرف واحد، وأن يقابل هذا الحشد من الدبابات عدد مساو له أو أقل بقليل من الدبابات، وأن تستمر تغذية المعركة بالدبابات، حتى بلغ عدد مازجّه الطرفان منها أكثر من ألفي دبابة.

كادت الحرب العالمية الثانية والحروب التي تلتها أن تضع نهاية حزينة لسلاح المشاة، حتى أن الكثيرين من الكتاب العسكريين باتوا يتندرون بهذا السلاح الذي أصبح في نظرهم أثراً من تراث الماضي، لكن حرب تشرين التحريرية أعطت جندي المشاة دوره الفعال في المعركة الهجومية والدفاعية، وهذا دليل آخر على أن الإنسان هو العامل الحاسم في المعركة.