مجلة البعث الأسبوعية

في مقياس الزلازل الاقتصادية.. التمويل مقابل الطاقة… من سيأتي في المقدمة؟

البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة

لا يقتصر الصراع الحالي بين الدول الغربية المستهلكة للنفط من جهة، والدول المنتجة من جهة أخرى، على ما تراه العين، لأن المؤكد أنه أعمق وأبعد بكثير من الحرب في أوكرانيا.

عندما وافق الاتحاد الأوروبي في السادس من تشرين الأول الحالي، على فرض سقف لأسعار النفط الروسي كجزء من حزمة جديدة من العقوبات ضد موسكو، قرر 23 وزيراً للنفط من مجموعة “أوبك بلس”، والبلدان المنتجة للنفط خفض الإنتاج في حصتهم من الإنتاج المشترك.

وقد أثار قرارهم الجماعي بخفض الإنتاج إلى نحو مليوني برميل من النفط يومياً، ردود فعل قوية خاصة ضمن الإدارة الأمريكية، بل يمكن القول إن حديث عن “إعلان حرب” كان يدور داخل أروقتها، كما لو أن الاتحاد الأوروبي بدأ يشعر بأنه قد خُدع، حيث يمكن أن تؤدي تخفيضات إنتاج أوبك، إلى رفع أسعار الوقود وإضعاف حزم “العقوبات الثمانية”.

وعلى الرغم من السردية القائلة بأن العالم يتجه نحو “عصر ما بعد النفط”، يبدو أن الحياة لا تزال في “البئر” القديم حتى الآن، حيث تظل أوبك حديث الساعة.

أوبك لاتزال كما كانت مهمة

منذ كانون الأول 2016، تقوم أوبك وعشرة منتجين للطاقة من خارج أوبك – بما في ذلك روسيا – بتنسيق سياساتهم الإنتاجية. ومع ذلك، لم يولي المحللون في ذلك الوقت صيغة “أوبك بلس” أية أهمية، بل سخر الكثيرون من الإعلان في مقر الأمانة العامة لمنظمة أوبك في فيينا، لكن أوبك صمدت في وجه عاصفة سوق النفط العالمية في السنوات الأخيرة وبرزت كلاعب رئيسي.

على النقيض من المغامرات في سوق النفط بين عامي 1973 و 1985، حيث كان التوافق بين أعضاء أوبك ضئيل للغاية، تمكن المنافسون السابقون اليوم من تحقيق إتفاق جمعي فيما بينهم.

في تلك الأيام، كان من المعتاد أن تأخذ الرياض في حسبانها تنفذ مصالح واشنطن داخل أوبك، فقد كانت مكالمة هاتفية واحدة من العاصمة الأمريكية كافية. وعندما قامت السعودية بتأميم شركة النفط الأمريكية أرامكو- التي عملت كذراع ممتدة للولايات المتحدة في المملكة – في أوائل السبعينيات كجزء من اتجاهات التأميم الشاملة في جميع أنحاء العالم، وعدت بتقديم التعويضات للولايات المتحدة لنيل رضاها.

يرى مراقبون أن عصر “الأخوات السبع”، وهو كارتل شركات النفط الذي قسم سوق النفط قد انتهى. ومع ذلك، بالنسبة لصناع السياسة في الولايات المتحدة – على الأقل نفسياً – لا تزال هذه الحقبة قائمة. “إنه نفطنا”، هو التعبير الذي يتم تداوله كثيراً في واشنطن، فقد كانت تلك الأصوات مرتفعة جداً خاصة أثناء غزو  الولايات المتحدة للعراق عام 2003.

 السوق المالي مقابل سوق الطاقة

لفهم جوهر الصراع في أوكرانيا – حيث تشتعل حرب بالوكالة – ينبغي على المرء أن يدرك ماهية هذا الصراع على هذا النحو، فالولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيون، الذين يمثلون ويدعمون القطاع المالي العالمي، منخرطون أساساً في معركة ضد قطاع الطاقة العالمي.

في السنوات الـ 22 الماضية، شهد العالم مدى سهولة قيام الحكومات بطباعة العملات الورقية، ففي عام 2022 وحدها، طبع الدولار الأمريكي نقوداً ورقية أكثر مما كان عليه في تاريخه المشترك. بينما، من المؤكد أنه لا يمكن طباعة الطاقة، وهنا تكمن مشكلة واشنطن الأساسية، حيث يمكن لقطاع السلع الأساسية التفوق على الصناعة المالية.

تقول” كرين كنايسل” الدبلوماسية والصحفية النمساوية، عندما كتبت كتابي “بوكر الطاقة” عام 2005، تناولت أيضاً مسألة العملات، أي ما إذا كان سيتم تداول النفط بالدولار الأمريكي على المدى الطويل. في ذلك الوقت، قال محاوري وكان من دول الأوبك العربية، من المؤكد إن الدولار لن يتغير. ومع ذلك، بعد 17 عاماً، تم تقويض هذا الرأي بشكل واضح، حيث تستعد الرياض-على سبيل المثال- لفكرة تداول النفط بعملات أخرى، كما ورد في المناقشات مع الصينيين للتعامل باليوان، والتداول بالروبل مثل دول غرب آسيا و بلدان جنوب العالم الأخرى، وبالتالي، لم تعد واشنطن تحتفظ بقدرتها على ممارسة نفوذها المطلق على أوبك، التي تعيد الآن تهيئة نفسها جيوسياسياً باعتبارها “أوبك بلس”.

 بين التحدي والغضب

كان الاجتماع الوزاري لمنظمة “أوبك بلس”  في 6 تشرين الأول، تلميحاً واضحاً لهذه الظروف الجديدة، حيث اندلعت التوترات المتأصلة بين وجهتي نظر العالم على الفور في قاعة الصحافة بعد الاجتماع، وقد هاجم صحفيون أمريكيون أوبك بشدة “لاحتجاز الاقتصاد العالمي رهينة”.

في اليوم التالي، أعلن البيت الأبيض عن تطبيق سياسة صارمة، فقد أدت تخفيضات أوبك والدول المنتجة للنفط إلى تأرجح واشنطن بين السخرية والسعي للانتقام  ضد السعوديين خاصة، لأنهم كانوا الأكثر امتثالاً  وخنوعاً في السابق.

في غضون أسابيع قليلة ستجرى انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة، ولا شك أن تداعيات ارتفاع أسعار الوقود ستظهر في صناديق الاقتراع.  لمدة عام تقريباً، عمل الرئيس جو بايدن على التوسع في إمدادات الوقود الأمريكية من احتياطاتها النفطية الإستراتيجية، لكنه لم يتمكن من معايرة سعر النفط أو التضخم الجامح. وقد أثار قرار المنظمة بخفض الإنتاج غضباً شديداً داخل أروقة الإدارة الأمريكية، حيث  هدد الكونغرس الأمريكي بتفعيل ما يسمى بقانون “نوبك” – بحجة حظر الكارتلات – لمصادرة أصول حكومات أوبك.

ظل هذا المفهوم محفوظاً لعقود في مبنى الكابيتول هيل دون أن يتم العمل به، ولكن هذه المرة قد تمتلك المشاعر اللاعقلانية زخماً جديداً مع أن هذه الإجراءات العدائية أو التهديدية الأمريكية قد تأتي بنتائج عكسية، بل وتسرع من التحولات الجيوسياسية التي تحدث في غرب آسيا، التي كانت تخرج من فلك الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة.

إنه الاقتصاد”

يرى المراقبون، أن سعر النفط هو مقياس الزلازل للاقتصاد العالمي وكذلك للجغرافيا السياسية العالمية، فمع تخفيضات الإنتاج، تخطط “أوبك بلس” ببساطة استباقياً، لعواقب الركود القادمة. علاوة على ذلك، قد تفشل بعض البلدان المنتجة في إنشاء قدرات جديدة بسبب وجود فجوة الاستثمار التي استمرت منذ عام 2014، لذا لا يمكن ببساطة استمرار انخفاض سعر النفط إذا لم يكن هناك استثمار رأسمالي كبير في هذا القطاع.

من المتوقع أن يزداد وضع إمدادات الطاقة سوءاً اعتباراً من 5 كانون الأول القادم، عندما يدخل الحظر النفطي الذي فرضه الاتحاد الأوروبي حيز التنفيذ. وستحدد القوانين الأساسية للعرض والطلب في نهاية المطاف العديد من التشوهات في أسواق السلع الأساسية، حيث أدت العقوبات المناهضة لروسيا التي فرضها الاتحاد الأوروبي ودول أخرى وعددها 42 دولة إلى تعطيل سلاسل التوريد العالمية، وكان لذلك عواقب من صنع الإنسان على العرض والتسعير.

يذكر أن الأزمتان الماليتان العالميتان الرئيسيتان – العقارات والبنوك في عام 2008، والوباء في عام 2020 – أدتا إلى الإفراط في طباعة النقود الورقية. ومن المفارقات أن الصين هي التي أخرجت الاقتصاد العالمي المشلول من الأزمة الأولى، فقد استقرت بكين في سوق السلع الأساسية بالكامل في 2009/2010 من خلال العمل كقاطرة عالمية وإدخال اليوان في مخططات التجارة.

للحقيقة، كانت الصناعة المالية التي يقودها الغرب تشن حربها ضد اقتصاد الطاقة الذي يهيمن عليه الشرق، ولكن في الحرب بين التمويل العالمي والطاقة، تبقى حقيقة واحدة واضحة: “يمكنك طباعة النقود ولكن لا يمكنك طباعة النفط”.