الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

من شروط النّهوض

عبد الكريم النّاعم

لقد عانتْ أمم وشعوب كثيرة من نكسات أصابتها، إمّا بسبب الحروب التي تُشنّ عليها، أو بسبب كوارث أخرى، ولقد عرفت هذه المنطقة العديد من الويلات عبر التاريخ، منذ فجر التاريخ حتى الآن، وأوّل ما يخطر بالبال ما فعله المغول وجنكيز خان، ورغم ما أصابها من دمار فقد كانت إرادة الحياة والنهوض أقوى، ونحن في سورية ما نزال نعاني من آثار ذلك الدمار الذي شنّته مائة وثمانون دولة، ولم يتوقّف استهدافه من قبل العدو الصهيوني لِما يمثّله من دور مركزي في حلف المقاومة.

الذي يُعتبَر بدهيّة أنّ الكوارث لا تلحق بالعمار وحده، بل هي تصيب النفوس، فتكاد تختفي النماذج النّبيلة، وتسود نماذج رثّة سلوكيّاً، فهي لا يهمّها إلاّ الكسب الشخصي ولو كان على حساب أقرب المقرّبين، وتتضعضع الأخلاق، وتنتشر المفاسد، وتسود روح العصابات، ويتساءل المرء أين كانت مُخبَّأة كل هذه الشرور؟!.

في هذا الخضمّ لا بدّ من التفكير بالنّهوض، والذي يبدو بالغ الصعوبة، ويصيب العديدين بالإحباط بسبب صعوبته، وليس ثمّة خيار إلا التأسيس للنهوض، وللنّهوض شروط لا بدّ من تحقيقها، وهي كثيرة، ومتشابكة، منها ما هو مادي، ومنها ما هو معنويّ، والذي لا جدال فيه أنّ بناء النفوس أصعب من بناء الإعمار، فالإعمار يحتاج للمال، وللوازمه من حديد، وإسمنت، وخفّان وما شابه، كما لإعمار النفوس موادّها الروحيّة الخاصّة، وقد ينجح العمران، ويتأخّر شفاء النّفوس بعض الوقت، وسأتوقّف عند أهمّ ما يحتاجه إنهاض النفوس.

قال الله عزّ وجلّ في قرآنه الكريم: “لا يُغيِّرُ اللهُ ما بِقوْمٍ حتّى يُغيِّروا ما بِأَنْفسهم”، وفي الآية ما يشير إلى أنّ الله سبحانه وتعالى قادر على إحداث ما يشاء، لا يُعجزه شيء، ولكنّه علّق رضى الله بالتغيير بأن يبدأ الإنسان بالتغيير في نفسه، حتى لكأنّه قانون كونيّ اجتماعي، فإذا تحقّقت الرغبة مقرونة بالفعل في التغيير كانت العناية الرحمانيّة في كفّة تلك الإرادة، وبذلك تتوضّح المسؤوليّة الثقيلة الواقعة على العباد في أن يعملوا هم، وفي ذلك من شرف العهد ما يجعل الإنسان يستحق أن يكون مكلّفاً من قبل المولى عزّ وجل، بيد أنّ الباحث يتساءل تُرى من أين يبدأ؟! ولقد شغل هذا الأمر بال الفلاسفة والمفكرين، فكانت ثمّة آراء في ذلك، ولقد لفتني في هذا السياق ما كتبه الفيلسوف “كانت” إذ يقول “لكي تُغيّروا المجتمع ينبغي أوّلاً أن تغيّروا العقليّة السائدة فيه عن طريق التعليم، والتّثقيف، والتّهذيب”، إذن التعليم، والثقافة، والأخلاق، هي أسس وركائز لا بديل لها لتحقيق نقلة نوعيّة في المجتمع.

التّعليم ليس تهيئة الأسس المادية والمعنويّة فحسب بل هو مضمون المناهج، فالمناهج إذا لم يكن هدفها إنشاء جيل متعلّم، متفهّم لمبادئ الأخوّة الوطنيّة والإنسانيّة، وحفظ البيئة، ونشدان الأمثل يكون أقلّ من محو الأميّة.

سئل أحد رؤساء الوزارات في فنلندا، في مؤتمر كان يحضره، ذات عام: “لماذا أنتم أسعد شعب في العالم؟ فأجاب لأنّنا اعتمدنا على ثلاثة أسس، التعليم أوّلاً، التعليم ثانياً، التعليم ثالثاً”.

في البلدان التي نَصِفها بالمتقدّمة، يوجد المؤمن، والملحد، ومَن يذهب إلى الكنيسة، ومَن لم يدخل دار عبادة قطّ، وما من أحد يهتمّ بإيمان هذا أو كفر ذلك، فذلك شأن شخصي بحت، وإنّما يهمّه التعامل الإنساني، والالتزام بالقانون، وبالنظافة، والعلاقة الإنسانيّة، وربّما كان هذا واحدة من أهمّ ما تتميّز به تلك المجتمعات، بينما نرى في بلدان العالم الثالث مناطق يتذابح فيها الناس باسم القبيلة، أو المذهب، أو الطائفة!!.

aaalnaem@gmail.com