مجلة البعث الأسبوعية

 اقتصاد السوق الحر يدفع بخيار “رأسمالية موجهة من قبل الدولة” كهوية لمستقبل الاقتصاد السوري

“البعث الأسبوعية” ــ مادلين جليس

لم يكن للاقتصاد السوري على مدى السنوات السابقة هوية واضحة، بل عانى وبحسب الخبراء الاقتصاديين -بحكم الواقع- من حالة انفصام واضح ين هويته الدستورية “الاشتراكية”، وهويته “الرأسمالية”، وعلى الرغم من أن دستور عام 2012 لم يحدد صراحة هوية الاقتصاد في سورية إلا أن هذه الهوية كانت كامنة في التفاصيل.

بداية وقبل الخوص في شكل هوية الاقتصاد السوري وما يجب أن تكون عليه، توضح الباحثة الاقتصادية الدكتورة رشا سيروب أن الرأسمالية والاشتراكية أنظمة اقتصادية وليست شكلاً من أشكال الحكومة، فيمكن للدولة أن يكون لها شكل ديمقراطي أو تمثيلي للحكومة وبذات الوقت لها نظام اقتصادي اشتراكي. ومثال على ذلك الدول الاسكندنافية، وهي بعض أكثر الدول حرية وتحضراً بين دول العالم، ومن الممكن أيضاً أن يكون للدولة نظام حكم استبدادي أو بلوتوقراطي وبذات الوقت تتمتع باقتصاد رأسمالي (ألمانيا الفاشية وإيطاليا مثالان جيدان).

تحديد الهوية..تحديد المسار

في دراسة له بعنوان “الهوية الاقتصادية وإعادة الإعمار في سورية” في مركز دمشق للدراسات والأبحاث “مداد”، يرى الدكتور مهيب صالحة أن أهمية تحديد الهوية الاقتصادية، تكمن في أن وجود عنوان أو هوية أو خط عريض، تمشي عليه مؤسسات الدولة، وتعتمده في خططها الاستراتيجية الخاصة بالنمو والتنمية، واستنادا لذلك سوف يؤدي بالتأكيد إلى تحقيق الأهداف المنشودة للدولة والمتمثلة في إعادة الإعمار والتنمية المستدامة والاستقرار الاقتصادي، لأنَّ للهوية الاقتصادية دوراً هاماً في تحديد توجُّه المجتمع، وتحديد خياراته لمناحي الأنشطة المختلفة من سياسية واقتصادية واجتماعية، بما يؤدي إلى تحديد المسار العام للدولة، وتوحيد القوانين المنظمة للهوية الاقتصادية.

كارثية تهميش القطاع العام

يرى بشار المنير عضو جمعية العلوم الاقتصادية ورئيس تحرير صحيفة النور السورية أن تداعيات الأزمة التي تمر بها بلادنا، وكذلك انعكاساتها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، برهنت كم كان خاطئاً بل كارثياً، ذلك التهميش والتجاهل، ثم العداء ومحاولات الإلغاء، التي مورست ضد القطاع العام بمختلف مؤسساته الصناعية والخدمية والاستراتيجية في سورية منذ عام 2000.

كما برهنت –برأيه- كم كانت مجحفة بحق الوطن والشعب، الرؤية الاقتصادية لمهندسي الاقتصاد السوري السابقين، الذين رهنوا الاقتصاد الوطني لعدالة السوق الحر، وهم يعلمون قبل غيرهم أن آليات السوق لم تكن عادلة في يوم من الأيام، رغم أن الدستور الذي كان سارياً ينص على الاقتصاد “الاشتراكي المخطط”!

ولذلك فقد كان التخبط الاقتصادي عنوان المرحلة التي سبقت عام 2012، كما يرى طلال عليوي أمين الشؤون الاقتصادية في الاتحاد العام لنقابات العمال، ويرجع عليوي السبب في هذا التخبط إلى عدم وضوح هوية الاقتصاد السوري، فقد كان البعد الاجتماعي هو الأساس أما باقي أهداف الاقتصاد فكانت متحركة.

الهوية في دستور 2012

مع صدور دستور 2012، يمكن القول إن حالة الفصام في الهوية انتهت، ولم يعد للنظام الاقتصادي هوية محددة دستورياً، بحسب ما ترى سيروب، إذ أُلغيت سمة “الاشتراكية” الملازمة للاقتصاد، وحلّ مكانها القطاع الخاص شريكاً للقطاع العام في الاقتصاد الوطني، وقد ورد هذا في المادة 13 التي نصّت على أن “يقوم الاقتصاد الوطني على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص..”. وبهذا، تحوّل الجدل الفكري إلى تساؤل حول طبيعة الأيدولوجيا الاقتصادية للدولة بعد التخلي عن الاشتراكية دستورياً.

وتضيف: باعتبار أن الدستور ليس وثيقة قانونية بحتة، كما أنه ليس مجرد بيان سياسي، بل أيضاً وثيقة اقتصادية تعبر عن التطلعات الاقتصادية للدولة، يمكن القول إن المواد الست في المبادئ الاقتصادية لدستور 2012 كانت كافية لتحديد الهوية الاقتصادية للدولة، فقد أجريت عدة تغييرات تعددها الدكتورة سيروب وتشرحها بالتفصيل:

ففي البداية تم تغيير أسماء التصنيفات لأنواع الملكيات وأبعدها عن المفاهيم الاشتراكية، إذ عُدلت “ملكية الشعب” التي كانت وفقا لدستور 1973 تشمل “الثروات الطبيعية والمرافق العامة والمنشآت والمؤسسات المؤممة أو التي تقيمها الدولة” لتصبح “ملكية عامة” تشمل “الثروات الطبيعية والمنشآت والمؤسسات والمرافق العامة”، وبهذا فإن جميع المؤسسات والمنشآت المملوكة للدولة – سواء المؤممة أو التي تقيمها-، يمكن بيعها كلياً أو جزئياً من خلال ما أسس له قانون الشركات رقم 29 لعام 2011 (قبل صدور دستور 2012 للشركات)، الذي أضاف نوعاً جديداً وهو “الشركات المساهمة المملوكة بالكامل للدولة” المعرفة بموجب المادة 6 من القانون بأنها “شركات مساهمة..تكون الدولة ممثلة بالخزينة العامة أو واحدة أو أكثر من الجهات العامة مالكة لأسهمها بالكامل ولا يجوز طرح أسهم هذه الشركات أو جزء منها للتداول إلا بموافقة مجلس الوزراء”، أي أن القانون أجاز بيع الأملاك العامة بعد تحويل هذه المؤسسات إلى شركات مساهمة.

كما حظيت الملكية الخاصة على حماية شديدة، حيث حظر دستور 2012 مصادرة الملكية الخاصة إلا “لضرورات الحرب والكوارث العامة”، وفي حالة المصادرة يجب أن يكون “التعويض معادلا للقيمة الحقيقية للملكية” وهو ما لم يكن عنه منصوصا في دستور 1973.

وأضيفت بعض الكلمات (على مواد الدستور القديم) ليصبح الدستور سور حماية وسد منيع أمام احتمال مصادرة الملكية الخاصة، إذ أضيفت كلمة “بمرسوم” إلى الفقرة التي تنص “لا تنتزع الملكية الخاصة إلا للمنفعة العامة”، وكلمة “مبرم” إلى الفقرة “لا تفرض المصادرة الخاصة إلا بحكم قضائي”، وبهذا نجد أن الدستور الجديد حرص على توفير الضمانات الواجبة لعدم المصادرة للملكية الخاصة، وهي من أهم شروط اقتصاد السوق.

ورغم قلة عدد المواد الاقتصادية في الدستور الاشتراكي والبالغ عددها 8 مواد فقط، غير أنه تم حذف مادتين منه: المادة 18 التي نصت ” الادخار واجب وطني تحميه الدولة وتشجعه وتنظمه”، وكأن الدستور الجديد يكرّس لمجتمع استهلاكي ينفق أكثر من دخله، وهو من أهم خصائص اقتصاد السوق الحر، وهو ما تظهره بيانات الحسابات القومية، حيث تجاوزت نسبة الإنفاق الاستهلاكي إلى الناتج المحلي الجمالي حاجز 100 % لأول مرة منذ العام 2012 لتصل إلى 112% في العام 2020، في حين أن هذه النسبة بلغت في المتوسط 73% خلال الفترة 2000 – 2005، وارتفعت إلى ما يقارب 80% خلال السنوات 2005 – 2010.

وأيضاً ألغيت المادة 20 التي ورد فيها: “يهدف استثمار المنشآت الاقتصادية الخاصة والمشتركة إلى تلبية الحاجات الاجتماعية وزيادة الدخل القومي وتحقيق رفاه الشعب”، وفي هذا ترك للقطاع الخاص الحرية في اختيار مشروعاته بصرف النظر عن مدى تناسب أنشطته مع الحاجات الاجتماعية ورفاه الشعب.

وتؤكد سيروب أن الخدمات الاجتماعية والثقافية والصحية لم تكن بعيدة عن التحولات الاقتصادية في بنية الفكر الاقتصادي للدولة السورية، حيث كانت “الدولة تكفل الخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية وتعمل بوجه خاص على توفيرها للقرية لرفع مستواها” لتصبح في دستور 2012 فقط “أركان أساسية لبناء المجتمع..”، أما التعليم، فقد شرّع دستور 2012 التعليم المأجور بأشكاله المختلفة التي كانت سائدة في ظل دستور 1973، الذي كفل مجانيته كما ورد في نص المادة 37 “التعليم حق تكفله الدولة وهو مجاني في جميع مراحله” ليضاف لها في الدستور الجديد “وينظم القانون الحالات التي يكون فيها التعليم مأجورا في الجامعات والمعاهد الحكومية” و”ينظم القانون إشراف الدولة على مؤسسات التعليم الخاص، وهو ما نشهده من خلال الرفع التدريجي لنسبة الطلاب المقبولين في التعليم الموازي لتصل إلى 50% في هذا العام “والكلام للدكتورة سيروب”.

بناء على ما سبق، ترى سيروب أن دستور 2012، شكل وثيقة اقتصادية واضحة المعالم، تم خلالها تحديد الهوية الاقتصادية الوطنية بأنها اقتصاد سوق حر، وبهذا فإن السياسات الحكومية خلال السنوات العشر المنصرمة: (من جمود في الوظائف العامة ورفع الدعم وأسعار الطاقة وزيادة رسوم الخدمات الاجتماعية، وإصدار العديد من القوانين المشجعة للحرية الاقتصادية)، لم تكن وليدة رحم الضرورة الاقتصادية ومقتضيات التكيف خلال الحرب وبسبب العقوبات، بل كانت تطبيقاً لإيديولوجيا السوق الحرة التي أسس لها دستور 2012 الأرضية القانونية والشرعية.

ما حدث بعد ذلك؟

يقول بشار المنير: دخلت سورية سنوات الجمر بعد الأزمة ومحاولة الغزو الإرهابي، وحصار اقتصادي دولي جائر بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وتسببت أيدي الإرهاب بحرق وسرقة المصانع وجميع القطاعات المنتجة الأخرى، وتدمير البنية التحتية، وأدت إلى نزوح الرساميل الوطنية المنتجة، والأيدي العاملة إلى الخارج، وخسارة الثروات الوطنية، وارتفعت مؤشرات الفقر والبطالة، وتراجعت إيرادات الخزينة العامة إلى مستويات قياسية، وانعكس كل ذلك على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ووصلت معاناة المواطنين المعيشية إلى مستويات كارثية، وتراجعت الحكومات شيئاً فشيئاً عن دعم الفئات الفقيرة والمتوسطة، وبدلا من “التنمية المستدامة، والنمو”، تسيّد اقتصاد السوق الحر المشوه المطعّم بالأسواق السوداء، دون قرار رسمي، لكن سياسات الحكومات المتعاقبة كانت تسعى إلى هذا التوجه بحسب المنير، الذي يتساءل عن أي هوية للاقتصاد السوري نتحدث؟!

لا “هوية”

يمكن القول: إن النظام الاقتصادي القائم في سورية حالياً هو رأسمالية المحاسيب أو رأسمالية الأولغارشية، القائمة على السيطرة على القرار الاقتصادي لصالح أصحاب المصالح، وهو ما تؤكده سيروب، فبرأيها من الواضح تحول الاقتصاد السوري إلى اقتصاد مستهلك، حيث بلغ الانفاق الاستهلاكي أكثر من 100% نسبة إلى الناتج المحلي الجمالي، أي يستهلك مما يستورد، فضلاً عن تحول الادخار في سورية إلى ادخار سالب، وهو ما سيعيق مستقبلاً القدرة على الاستثمار.

وتؤكد أنه ورغم اختلاف الأنظمة الاقتصادية للدول المختارة ودرجة تقدمها، غير أنها جميعا تعتمد على الضرائب كمورد رئيسي في تمويل الإنفاق الحكومي، لكن الاقتصاد السوري هو الأقل بينها في الإيرادات الضريبية وهو ما يفسر تراجع الإنفاق الحكومي، وبهذا نلحظ وجود تناقض بين الضرائب وبين الإنفاق الحكومي، أي تضارب بين دور الدولة التدخلي.

ولذلك لا يوجد سمة واضحة بين مؤشرات تقييم الأنظمة الاقتصادية، على سبيل المثال لا يزال تحديد السعر يقوم على التسعير الإداري الذي هو من أهم سمات الاقتصاد الاشتراكي، أما من حيث ملكية وسائل الإنتاج فيمكن تصنيفها بأنها اقتصاد مختلط، في حين أن التدخل الحكومي في حدوده الدنيا وهو ما ينسجم مع توصيف اقتصاد السوق، ولذلك تنفي الباحثة سيروب وجود هوية واضحة للاقتصاد السوري.

مقاربات للهوية الأمثل

لكي نحدد الهوية الأمثل للاقتصاد السوري، لا بد من اختيار الوظيفة الاقتصادية للدولة التي تفرضها الميزات التفاضلية المتاحة، فعلى الرغم من حقيقة أن جزءاً كبيراً من الاقتصاد مملوك للقطاع الخاص، فإن العديد من الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية ما زالت الحكومة هي المسيطر الأكبر (وبالتالي تظهر خصائص الأنظمة الاشتراكية).

وبالمقابل تظهر القوانين التي تحكم كل من أصحاب الأعمال المحليين والأجانب أن الحكومة السورية تدعم القطاع الخاص وتنحى منحنى رأسمالية المحاسيب .

وفي كل الأحوال، فإن المتغير الذي لا ينبغي تركه خارج التفكير الاقتصادي هو العنصر البشري، إذ يؤثر الأفراد غير الراضين على الأداء التنظيمي، على الاقتصاد سلباً.

في ظل الظروف الراهنة، والشح في الموارد المتاحة من الثروات الطبيعية، وعدم الاستقرار السياسي وحفاظا على التراث الثقافي والإرث التاريخي، واستغلالاً لمقدرات الكوادر البشرية وشكل النظام السياسي، وفي إطار الإجابة عن الأسئلة الثلاث: ماذا ننتج؟ كيف ننتج؟ لمن ننتج ؟، يمكن القول: إن رأسمالية موجهة من قبل الدولة هي الخيار الأفضل، من خلال التشريعات واللوائح وممارسة بعض الأنشطة الاقتصادية بشكل مباشر من قبل الجهات والهيئات الحكومية.

تحديد الهوية المستقبلية.. مغامرة

يخالف المنير رأي سيروب في تحديد هوية الاقتصاد السوري في المستقبل، ويرى ذلك أقرب إلى مغامرة، كما يشير إلى أنه قبل نجاح الجهود السياسية لحل الأزمة السورية، واسترجاع سيادة الدولة على جميع المناطق والثروات السورية، وإلغاء الحصار والعقوبات، لا يمكن الحديث عن هوية لاقتصادنا الوطني.

ويضيف: في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية التي نشأت بعد أزمتنا، وفي ظل دخول نحو 85% من المواطنين السوريين قسراً إلى خانة الفقر، لا أعتقد أن النظام الرأسمالي حتى وإن كان موجهاً من قبل الدولة، سينهض بالاقتصاد السوري، وسيلبي الحاجات الاجتماعية والمعيشية للمواطنين.

حوار سوري سوري.. وتصحيح المسار

واقترح المنير أن تُحدد هوية الاقتصاد السوري ضمن حوار سوري شامل، يتم التوافق فيه بين جميع الأطياف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإثنية، وتحدد فيه ملامح سورية المستقبل بالاستناد إلى الواقع الراهن للاقتصاد الوطني، والأوضاع المعيشية الراهنة للمواطنين السوريين، والاستحقاق الأبرز القادم، وهو استحقاق إعادة الإعمار.

أما أمين الشؤون الاقتصادية في اتحاد العمال فاقترح أن يتم تصحيح المسار على الأقل أن يكون هناك كفة راجحة للدولة في كل الاستثمارات، مؤكداً عدم إنكار الدور الاجتماعي للدولة فالحكومات المتعاقبة في الأساس كان دورها خدمي اجتماعي يتمثل في توفير المستلزمات المعيشية للمواطن، ولو كان ذلك يتم في حدوده الدنيا؛ مشيرا إلى أن تصحيح المسار يكمن في دعمه بالمتغيرات المستجدة بصدور تشريعات جديدة وألا يؤخذ بالحلول الجاهزة في الأدراج فمن المفترض أن يكون لدى الحكومة حلول مستنبطة ومبادرات وإصدار تشريعات.

ويمكن أن تكون هوية الاقتصاد واضحة، كما يرى عليوي، في حال إصلاح الاختلات في الاقتصاد مع الإشارة إلى أن القدرة على ذلك موجودة، من حيث امتلاك الكفاءات والعقول القادرة على التخطيط والعمل، ولذلك تبرز أهمية طرح خطة خمسية أو عشرية قادمة تكون محددة الملامح وقادرة على تحديد المسارات.

على الرغم..!

على الرغم من أن الخطط السابقة لم تنفذ فهناك الخطة التي طرحت في عام 2017 وهي “سورية ما بعد الحرب 2030” فإلى الآن لم يتم العمل فيها ومن المفروض أن نكون قد وصلنا في عام 2022 إلى المرحلة الثالثة منها، لكن في الحقيقة لا يوجد شيء واضح على أرض الواقع.