الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

القربان..!

حسن حميد

نعم، إنّ ما يُثلج الصدر حقّاً، ويُحيي الذكر ويؤبّده، ويجعل الحبر ضوءاً يماشي السير المحتشدة بالكرامة والكبرياء، هو هذه الكتابات التي سجّلت وأرّخت ورسمت حيوات شهدائنا السّادة الذين أعطوا ذوب أرواحهم طواعيةً فداءً للأرض الغالية، وكرمى للوطن وسيادته، وذوداً عن حياة كريمة للأهل، وانتصاراً للمستقبل الذي نمشي إليه بكلّ العزم والعزة والعطاء.

الآن، بين أيدينا، كتاباتٌ غنيةٌ، ومهمّةٌ، دارت حول العشرية الدموية التي عشناها بكلّ ما فيها من مرّ وحلو، وبكاء وفقد، وبطولات فذّة تفرح القلب، هذه الكتابات لم يكتبها الأدباء والكتّاب والشعراء والمؤرّخون وحدهم، وإنما كتبها رفاق السلاح، داخل عتمات لياليهم في خنادقهم وثغورهم، وطيّ سهرهم، تفادياً لأيّ مباغتة أو مفاجأة، وطيّ حزنهم وهم يستعيدون وقائع حياة الشهداء الذين سبقوهم إلى العلا والمجد والحضور الآبد، رفاق السلاح هم هؤلاء الجرحى الذين أصابهم رصاص شياطين الأرض، أهل العماء والظلمة، فغادروا الخنادق إلى المشافي لضبط نزيف جروحهم، وفوق أسرّة الشفاء، تذكروا رفاقهم الشهداء فكتبوا سيرهم، وأبدوا أخلاقهم، وسلوكياتهم، مثلما أبدوا جسارتهم وهم يخوضون المواجهات مع أهل العماء والظلمة، ولعلّ هذه السير المكتوبة هي من أهم الكتابات التي وثّقت وقائع الحرب في هذه العشرية الدموية، لأنها لم تكتب الأحداث فحسب، وإنما كتبت وقائع الحياة التي عاشها المقاتلون في الخنادق والكهوف والغابات والثغور، فتحدثت عن تفاصيل التفاصيل التي بدت مضيئة شارقة في سرد جميل رسم كينونة الحياة التي انتقلت من المجتمع المدني إلى المجتمع العسكري في وقت المداحمة مع الأعداء، سرد قال لنا بوضوح شديد من هم الآباء والأبناء الذين ذادوا عن الأرض كي يظلّ الوطن ويبقى عزيزاً، وكي تظلّ الكبرياء الوطنية وتبقى عزيزة أيضاً.

نوع آخر من السير التي ماشت حياة الشهداء من أجل التعريف بهم، كتبها أهل الشهداء أنفسهم، وهذه سير نادرة في صدقها، وسردها، والتفاصيل التي وقفت عليها لتذيعها، مثلما هي نادرة في البوح عن المشاعر التي لفّت أهل الشهداء في لحظة الإعلان عن استشهادهم، ولحظة وصول جثامينهم في الخشب الصقيل، ولحظة زفافهم من داخل البيوت، وعبر طريق البكاء والحزن الموصل إلى مقبرة الشهداء، ومن هذه الكتابات رواية (القربان) التي كتبتها الأديبة إلهام وسوف عن ابنها الشهيد الذي كان مثالاً للفداء والتضحية والبطولة، وهي رواية لا تروي سيرة حياة الشهيد فحسب، وإنما تروي سيرة استشهاده، والخوف عليه، والاتصالات التي كانت بينه وبين أمّه، وما الذي باح به، وما الذي أخفاه عنها، وما الذي قاله لأمّه عن رفاقه، وعن الأمكنة التي عاشوا فيها، والأمكنة التي ينتقلون إليها، وما الذي تقوله أمّه له، وما الذي توصيه به، وما هي خواتيم تلك الاتصالات في كلّ مرّة، وما فيها من مشاعر وجدانية تأسر القلب، فهو يؤكد لأمّه بأنه سيكون عند حسن ظنها، وأمّه تقول له: كن بطلاً!.

في رواية (القربان) خرائط مكانية توضحK وبالتفاصيل، المساحات التي انتشرت فيها الظلمة والمخاوف والأسئلة الشيطانية، والأفعال البطولية التي أعادت إليها النور والطمأنينة، وفي الرواية أيضاً خرائط زمنية تتحدث عن الفصول، ومتوالية النهار والليل، وما عاناه المقاتلون من قسوة متعدّدة في صورها وشدّتها، ومنها قسوة الشتاء، وسطوة البرد، وكثرة الدروب الموحلة، والارتفاعات العالية للتلال والجبال، والهبوط نحو قيعان الأودية، وعطش الصحارى، وصعوبة التواصل حين تقطع الطرق، وحين تغيب تغطية وسائل الاتصال، وما ينجم عن ذلك من خرائط جديدة للخوف، والانتظار، والأسئلة، والحيرة، وما تولده هذه الخرائط من أحزان جديدة للبكاء، والأسى، والقلق.

في رواية (القربان) لـ إلهام وسوف تتلاقى حياة المقاتلين وحياة المدنيين في بقعة أرجوانية واحدة، هي بقعة الانتظار المشتهى، فالابن ينتظر عودته إلى أهله ليقول لهم ها قد جئت إليكم في عربة البطولة والكبرياء، والأم تنتظره كيما تأخذه غمراً بين ذراعيها، سواء أكان حيّاً يحدّثها، أو شهيداً يبتسمُ لها.

رواية (القربان) لـ إلهام وسوف، سيرة للحرب الشرسة التي خاضها الأبناء بالعزم كلّه، والوطنية كلّها، والمحبة كلّها للمكان السوري، سواء أكان مكاناً دانياً أم قصيّاً، وبالأشواق العالية المحوّمة، مثل الطّيور، فوق القرى والمدن كيما تهتف بكلمة واحدة: انتصرنا!

Hasanhamid55@yahoo.com