مجلة البعث الأسبوعية

الاقتصاد المجنون… الرأسمالية نظام  يكافئ التهور والدمار

البعث الأسبوعية- علي اليوسف

من العشرينيات حتى التسعينيات، تناول كوين سلوبوديان في كتاب “العولمة”، تاريخ الفكر النيوليبرالي، وركز على أنه كان لدى مفكرو السوق الحرة في النمسا وألمانيا نموذجاً مشتركاً يتمثل في “تغطية” السوق بشكل قانوني لحمايتها  من أضرار السياسة. في كتابه طرح مثالاً مهماً هو الأسلاك النحاسية في شبكات الكهرباء، حيث أوضح أنه لتعمل بشكل فعال وآمن، يجب أن تكون الأسلاك محكمة الإغلاق بالبلاستيك، وبالتالي حمايتها من التدخل الخارجي.

كما يوضح سلوبوديان، أنه بعد عام 1945، تمت محاولة كشف هذا الغطاء القانوني من خلال إنشاء هيئات تنظيمية دولية ومناطق تجارية، مثل الجماعة الاقتصادية الأوروبية، التي وضعت المجالات الرئيسية للسياسة الاقتصادية كالدفاع عن حقوق الملكية والمنافسة، على سبيل المثال، خارج السياسة الوطنية.

ما الذي كان يخشى هؤلاء المثقفون؟. في الأساس، كان التهديد من أن الاشتراكيين قد يغتصبون المنطق التلقائي للسوق بالخطط الاقتصادية الوطنية، حيث رأت شخصيات مثل فريدريك فون هايك شبح الاشتراكية في كل مكان، لكن كان هناك أيضاً تهديد من القومية، لا سيما في الأراضي المستعمرة سابقاً والتي حصلت على الاستقلال في فترة ما بعد الحرب. كانت المخاطرة ، كما تصورها النيوليبراليون الأوائل، تتمثل في أن تراجع الإمبراطورية سيفتح المجال أمام مشاريع اقتصادية وطنية غافلة عن مزايا الرأسمالية أو السوق الحرة، لكن إذا أصبح السوق مؤسسة عالمية يحميها القانون، فلن تسمح أي درجة من الاستقلال الذاتي الوطني والديمقراطي بالإفلات من انضباطها.

حقق مشروع تغليف السوق هذا أكبر نجاحاته في ربع قرن بين انهيار اشتراكية الدولة والانتصارات الشعبوية التي عطلت السياسة الأوروبية والأمريكية في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. تأسس “الاتحاد الأوروبي” في عام 1993، و”نفتا” في عام 1994، و”منظمة التجارة العالمية” في عام 1995، و”اليورو” في عام 1999، ويمكن القول إن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001 كان الحدث الأكثر أهمية في هذا التسلسل. في سنوات إجماع واشنطن قبل هذا العصر الذهبي لحكم السوق متعدد الأطراف، استولت حكومة الولايات المتحدة على الإمكانات الكامنة للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكلاهما يتخذ من واشنطن مقراً له، لفرض سياسات مؤيدة للسوق العالمي كشرط للوصول إلى الائتمان.

في هذه الأثناء، كانت السياسة الوطنية في هذا العصر تتم كما لو أن كل خطوة وكل قول من قبل شخصية عامة سيحكم عليه “الأسواق”، وهو ما يعني الأسواق المالية الدولية. عندما تم إخبار بيل كلينتون في عام 1993 أنه إذا تابع مجموعته الكاملة من التزامات الإنفاق، فسيقوم الاحتياطي الفيدرالي ببساطة برفع أسعار الفائدة لحماية قيمة السندات الحكومية حتى في حالة حدوث ركود، كان رده: “أنت تقصد أن تقول أن نجاح البرنامج وإعادة انتخابي يتوقفان على الاحتياطي الفيدرالي ومجموعة من تجار السندات اللعين”.

في أعقاب الأزمة المالية العالمية في 2007-2009، واصل السياسيون المحافظون مثل جورج أوزبورن، وولفغانغ شوبل الإصرار على أن مساحة صنع القرار كانت، سواء أحبها الناس أم لا ، مقيدة بشدة بما تسمح به الأسواق. كان أحد الإجراءات الأولى لـ أوزبورن عند دخوله وزارة الخزانة في أيار 2010 هو إنشاء مكتب داخلي لمسؤولية الميزانية، وهو نوع من “الأنا العليا” المالية التي ستحكم على أي إعلانات مالية صادرة عن “وايتهول”. عندما أخبر أوزبورن مؤتمر حزب المحافظين في عام 2012 بأن “نحن جميعاً في هذا معاً”، تم تفسيره على أنه وعد بأن ألم التقشف سيتم تقاسمه على قدم المساواة، لكنه ربما كان يشير ضمنياً إلى أن الجميع مرتبطون معاً تحت العين الساهرة دائماً لسوق لا يرحم، بمعنى أن الأسواق ليست فقط مغطاة قانونياً من خلال القانون والتنظيم، ولكنها محصورة نفسياً في الخيال السياسي.

ربما كان الليبراليون الجدد يخشون أن التهديد الرئيسي جاء من اليسار، ولكن مع استثناءات قليلة، أظهرت الأحداث السياسية منذ عام 2015 أن اليمين هو الجاد في التخلص، أو ببساطة تجاهل قيود اللوائح وانضباط الأسواق الدولية. فسر سلوبوديان سياسات ترامب التجارية التدخلية على أنها رد فعل عنيف ضد العولمة “من أعلى”، تخدم مصالح النخبة مثل مصنعي الصلب في الولايات المتحدة. كما كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هجوماً صريحاً على قيود التنظيم الأوروبي، الذي احتضنه الجناح اليميني لحزب المحافظين منذ أواخر الثمانينيات فصاعداً، حتى أصبح التشكيك في أوروبا سمة مركزية لمنصات السياسة القومية عبر “منطقة اليورو”.

قد يتم توجيه الانفعالات السياسية لليمين إلى الخارج تجاه المنظمين الدوليين و “النخب العالمية”، لكنها تميل إلى جلب الفوضى إلى السياسة الداخلية. قبل ثلاث سنوات، وجدت المحكمة العليا أن بوريس جونسون قام بتأجيل البرلمان بشكل غير قانوني في محاولة لإحباط التشريع ضد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بدون اتفاق”. أعطت المواجهة جونسون قشرة الشرعية الشعبوية التي كان يسعى إليها، حيث تمكنت الصحف المحافظة ومنظرو “البريكست” من تصوير البرلمان والقضاة وحزب العمال كمتآمرين ضد تنفيذ “إرادة الشعب”، كما تم التعبير عنها في استفتاء 2016.

ليس سراً أن أعضاء حزب المحافظين يؤيدون الفكرة المحافظة الراديكالية القائلة بأن الإنفاق العام يكافئ الكسل والجنوح الأخلاقي. كانت مثل هذه المعتقدات هي التي دفعت 81326 من أعضاء حزب المحافظين إلى تعيين تراس كرئيس للوزراء في المقام الأول. بعد أقل من أسبوع من “الميزانية المصغرة”، كان كريس فيلب، وزير الخزانة، يلمح إلى انعكاس التزام ريشي سوناك زعيم حزب المحافظين، ورئيس الوزراء الجديد بزيادة الفوائد بما يتماشى مع التضخم.

قد يكون الأمر كذلك كجزء من إعادة هيكلة كبيرة لنموذج بريطانيا للرأسمالية، بغض النظر عن مدى الضرر الذي يلحقه بشركات الرهن العقاري. هناك منطق محتمل مرتبط بكل هذا، مشتق في الأصل من تقليد الاقتصاد النمساوي، حيث تفهم هذه المدرسة الرأسمالية بشكل خاص في أشكالها الأكثر تحرراً، على أنها نظام تطوري يعيد تصميمه باستمرار، ولكن يجب أن يعاني بشكل دوري فترات من الأزمات الكبيرة كشكل من أشكال التطهير المنهجي للشركات غير الفعالة، والتقنيات التي عفا عليها الزمن، لكن من وجهة نظر الاقتصاديين فإن الرأسمالية هي نظام غالباً ما يكافئ التهور والدمار.