ثقافةصحيفة البعث

الموشحات الحلبية

فيصل خرتش

جاءت مدرسة حلب الفنية تطوّراً للغناء العربي الشرقي، وساهم في إرسائها سيادة الطرق الصوفية، ويطالعنا اسم “عقيل المنبجي” المتوفي سنة 550 هـ، وهو مبتكر رقص السماح على إيقاعات الموشحات، وكان له تلاميذه ومريدوه يعلمهم الأناشيد والتواشيح على الإيقاع، كما يطالعنا اسم السهروردي، توفي نحو 587 هـ بنجواه الصوفية الإشراقية، وموشحته الشهيرة:

                على العقيق اجتمعنا           نحن وسود العيـــون

                أظن مجنون ليلـــى            ما جنّ بعض جنوني

يتألف الموشح على الأغلب من ستة أقفال وخمسة أبيات، ومن الموشحات ما جاء على بحور الشعر المعروفة، وقد أدخل الحلبيون الكثير من التحسينات على الموشحات الأندلسية، وطبعوها بطابعهم وذوقهم، حتى باتت تعرف بالموشحات الحلبية، وأضافوا على غناء الموشحات نوعاً من الرقص عرف بالسماح.

وهناك فوارق أخرى بين موشحات الدول العربية، فالموشح المصري يغلب عليه التطريب، والحلبي أقل تطريباً، أمّا التونسي فهو أقرب إلينا، والأوزان الشعرية الجديدة تساهم في التكوين الموسيقي، وتساعد على إيحاءات وجملة موسيقية جديدة، غير مألوفة، وقد عالج الحلبيون بعض القصائد الشعرية معالجة الموشح، كقصيدة أبي نواس التي غناها صباح فخري:

                حاملُ الهوى تعب             يستخفه الطرب

بدأ عمر البطش تلقي علوم الأنغام والأوزان والموشحات على يد خاله الحاج بكري القصير الذي كان يصطحبه معه إلى حلقات الذكر والموالد، وفيها التقى بأساطين الإنشاد والغناء والموسيقا ورقص السماح، وأخذ عنهم ومنهم: أحمد عقيل، وأحمد مشهدي، وأحمد الشعار وصالح الجذبة، ولم يبخل على تلاميذه، فأعطاهم كثيراً ممّا عرفه، والذين تولوا نشر فنه وموشحاته وما يصاحبها من أوزان رقص السماح، وقد لحن البطش حوالي مئة وأربعة وثلاثين موشحاً، والباقي حفظته الفرق الموسيقية.

إنّ سيد درويش وعمر البطش التقيا في موشح واحد، فقد ترك سيد درويش موشحات بلا خانات، واقتصر في التلحين على البيت الأوّل (القفل)، وقد سأل فخري البارودي مرة عمر البطش عن سبب كتابة خانات في بعض موشحات سيد درويش، فصمت، وفي اليوم التالي عاد مستكملاً العمل في موشح سيد درويش “يا شادي الألحان” بتلحين الخانة الأولى، فصار كما يلي:

موشح سيد درويش:

يا شادي الألحان       أسمعنا رنة العيدان

عمر البطش (خانة):

هات يا فنان أسمعنا           نغمة الكردان

أصبحت هذه الموشحات بأقفالها (الدرويشية) وخاناتها (العمرية)على ألسنة المنشدين والمطربين، وحققت الانتشار الواسع، والخلود الفني، ولن نذكرها هنا لأنها كثيرة.  عندما زار حلب محمّد عبد الوهاب، اجتمع معه في فندق “بارون”، وقال: “إنني أسمع موشح من نغمة “السيكا” الأصلية، فهل يوجد لديكم موشحة فيها، وأجاب عمر: نعم يوجد غداً تكون جاهزة، وفي اليوم التالي كانت جاهزة يسمعها عبد الوهاب منه، ليلتها لم ينم عمر البطش وأمدته الثقافة والإلهام وروحه العبقرية بما يريد، قائلاً: أليس من العيب أن يزورنا عبد الوهاب ويطلب نغمة عزيزة، فنقف عاجزين أمامه، ونحن شيوخ هذا الفن.

صاع لحن الموشح الحلبي من أية نغمة أو مقام يختاره الملحن، ويسير الملحن غالباً على إيقاع الأوزان الثقيلة أو المركبة، ويختلف الإيقاع كما هو حال النغمة من موشح إلى آخر، ويندرج من الثقيل إلى الأخف فالأخف حتى تختتم الوصل بإيقاع نشيط سريع، أما لحن الخانة فلا بدّ أن يكون لحناً جديداً ومن نغمة أخرى أيضاً.  ويوجد في موروث حلب من الموشحات عدد كبير من الخانات أو السلاسل يمهد لحنها لإجراء حوار بين المرددين والمطرب الذي تعتمد ردوده على عفوية الارتجال.

هذا الموشح الحلبي، الذي انتشر خارج حلب، وشمل أقطاراً عربية عديدة، صاغ ملحنوها ألحانهم على نفس القالب والترتيب، والقول القصد في هذا الموضوع هو وجوب وجود وصلات من الألحان الموشحة ساعدت على وجود رقص السماح، لأن ارتباط السماح عضوياً بتلك الوصلات يجعل من المستحيل وجوده بدونها.

الموشحات الحلبية، خاصة بحلب، وتفترق عن الموشحات الأندلسية بجملتها الموسيقية وشعرها الحلبي، وفي تركيا لون من الغناء يشبه الموشح يعرف بالشارقية،  أشهر من عُرف في حلب: علي الدرويش، وابنه نديم الدرويش، وعمر البطش، وصبحي الحريري.