مجلة البعث الأسبوعية

الرواية مرآة الحياة

ومضة..

البعث الأسبوعية – ثقافة – سلوى عباس:

أحداث كثيرة تمر في حياتنا تصلح لأن تكون قصصاً من صميم الحياة وجحيم الواقع، حتى لو لم يلعب إحساسنا بالعدالة دوره في قراراتنا، فالعيش وحده كفيل بأن يجعلنا على صدام مع الواقع الذي لايرتهن لنا إلا بمقدار مايرمي علينا بأثقاله، فإذا نحن مهددون بوطأته مع إحساس داهم بأنه سيستمر إلى ما لا نهاية كأن لا فكاك منه ولا مهرب، فهل يشكل هذا الشعور دعوة للكتابة، أم للصمت؟ إذ لايمكن للكاتب أن يتواطأ، أو حتى أن يتجاهل مايجري مهما كان متفائلاً، فالواقع غير منصف، والكتابة في هذه الحالة تبدو تحايلاً مقصوداً على الغبن الحاصل في الحياة، ووسيلة لإصلاحه وتصحيح أخطائه، بحيث يبدو وكأن مايفتقده الواقع توفره الكتابة أي كان مجالها في الرواية أم القصة أم الخاطرة، غير أن ما ينجح على الورق لا يؤدي بالضرورة إلى نتائج ملموسة بشكل حقيقي على أرض الواقع، رغم أن الكتابة لاتنفصل عن الحياة، غير أن ثمة أموراً في الحياة لايمكن الكتابة عنها إن لم نعشها بالفعل، ليس لأنها تستحق العيش، وإنما لأن الإحساس بالرعب والظلم مقياس جدارتها، حيث ينهل الكاتب من مخزونه الواعي وغير الواعي، إلا أن الدهشة الأكبر عندما يكتشف في داخله كماً هائلاً من الذكريات والصور والأشخاص والأمكنة، والأتراح والأفراح مايفيض عن ما يتوق إليه، وكل هذا يستعاد ويتدفق من جديد من الذاكرة إلى الكتب، فالرواية مثلاً تزعم أنها بقوة خيالها تتغلب على الواقع، على الرغم من قصورها العملي، بمعنى أن شخصياتها وأحداثها لاتتحرك على الأرض، ومع هذا لاتكف عن ابتكار مايتفوق على الواقع، وهي بالمقارنة معه تمنح للحب طعماً مثيراً وتسبغ على الخيبة ألقاً يتعدى الحقيقة.

إن ماينساه الروائيون الذين يؤمنون بالخيال وبقدراته الخارقة أن الحياة هي المعين الأوحد للرواية بحكم ما تنطوي عليه من فوضى هائلة من حيث اختلاف الطبائع والمطامع والخطايا والنزاعات، ما يستعصي على العقل استيعابه، فهذه الحياة والبشر يحاولون ترتيبها على نحو أكثر إقناعاً وإلهاماً، غير أنها تمتلك وسائلها العابثة، وهي أمر عسير حتى على الخيال توقعها، حتى وإن كان من السهل على الروائي اختلاقها، غير أنها لن تكون بهذا الشطط، وغير محيرة، لحدوثها في عالم متخيل، في حين يجسد الواقع حضورها المفاجئ السلبي أو الإيجابي، وهذا الواقع الغني منح الروائيون أكثر من ذريعة لابتكار أحداث وشخصيات حاولت اقتفاء هذه الأنماط التي لم تعثر عليها الموهبة، بل الواقع هو الذي قدمها إليهم ببساطة، وحتى عندما ترتد الرواية نحو التاريخ، فليس للهروب من الحاضر، أو الحنين إلى الماضي فقط، وإنما للاستجابة لتساؤلات يطرحها الواقع لايمكن العثور على إجابات عنها إلا في التاريخ.

ولايخفى على المتابع للحركة الروائية العربية والعالمية أن إشكالية الروائي مع عصره تتركز حول كيفية كتابته والتعبير عنه وهو في داخله، ويظن نفسه أنه يستطيع أن يكون خارجه، فالرواية عملية تلاؤم بينهما يستخدم فيها الروائي طرقاً ووسائل متعددة، فالروائي يجرب وتجربته غير نهائية، وبالتالي الرواية نفسها أفق مفتوح وليس من مبرر لإغلاقه، وإذا قلنا الواقع أولاً فلا يعني هذا أن الرواية على هامش الحياة، وإنما هي المرآة الكبرى لمسيرة الإنسان، وهي لاتتفوق على الواقع إلا بذهابها إليه، ليس لتحاكيه، وإنما كي تتنبأ بحقيقة البشر عبر الزمن، حيث أن الرواية تكثيف لمركزية الإنسان في الكون، وإن مايطرأ من تحولات على المجتمع، وما يصيب الحياة من تفسخ روحي وأخلاقي، وما يعتريها من متغيرات عشوائية، يمكن اختصاره ببضع كلمات: ما من رواية تنجو من الحياة.