مجلة البعث الأسبوعية

محكمة الجنايات الدولية تتحول “لكبش مدمر” العزف على وتر جرائم الحرب…. روسيا ليست ليبيا

البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة

تواصل المحكمة الجنائية الدولية لعب دور”الكبش المدمر”، وذلك خدمة لسياسة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي”.

في الحقيقة، لم يأت الاقتباس المذكور أعلاه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أو من الرئيس الصيني شي جين بينغ، بل إنه أتى من السفير الأمريكي السابق لقضايا جرائم الحرب ديفيد شيفر 1997-2001 في إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، وكبير مفاوضي الولايات المتحدة أثناء إنشاء ما يزيد على خمس محاكم جنائية دولية، خاصة بـ يوغوسلافيا السابقة، ورواندا، وسيراليون، وكمبوديا، والمحكمة الجنائية الدولية.

استخدم شيفر صورة “الكبش المدمر” أثناء حديثه عن أول محكمة جنائية دولية تأسست في أيار 1993، المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا، عندما أشار بقوله: “في ذلك الوقت، كانت المحكمة أداة قضائية قوية، وكنت أتمتع بما يكفي من الدعم من الرئيس كلينتون، ووزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، ووزير الدفاع ويليام كوهين، وغيرهم من المسؤولين رفيعي المستوى في الإدارة الأمريكية لمحاولة استغلالها ككبش مدمر لتنفيذ سياسة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي”.

تأتي أهمية هذا الاقتباس اليوم بشكل خاص، مع ارتفاع صوت الدعوات المطالبة بتقديم المواطنين الروس، والرئيس الروسي للمثول أمام المحاكم الجنائية الدولية، وكما هو متوقع تصدر هذه الدعوات من دول حلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى منظمات الأمم المتحدة، ووسائل الإعلام الغربية المسيسة.

تسليح العدالة الجنائية الدولية

في الحقيقة، أصبحت إستراتيجية الناتو، والاتحاد الأوروبي واضحة، وهدفها تسليح العدالة الجنائية الدولية، وحقوق الإنسان ضد روسيا اليوم  بشكل علني، ومن المؤكد أن الإستراتيجية ذاتها ستستخدمها ضد الصين، أو أي دولة أخرى تجرؤ على رفض املاءات الولايات المتحدة وحلفاؤها أو أتباعها، والأمثلة كثيرة على ذلك، وفيما بعضاً منها.

لقد أعلنت المحكمة الجنائية الدولية نفسها أنها تتمتع بولاية قضائية على روسيا، على الرغم من أن روسيا ليست عضواً فيها. وبحسب المدعي العام في المحكمة كريم خان: هذه ليست مشكلة من الناحية القانونية، ولن يمثل ذلك عقبة أمام اختصاصنا القضائي.

لذا، لابد لنا هنا من التذكير بأن المدعي العام خان يسافر إلى أوكرانيا تحت حماية القوات المسلحة الأوكرانية، التي لم يتم ذكر جرائمها الموثقة، وانتهاكاتها العديدة التي يتم ارتكابها منذ عام 2014.

في آذار 2022، عين مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، القاضي إريك موس لرئاسة لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة بشأن أوكرانيا، التي ستحقق في الجرائم المزعومة في أوكرانيا، والتي قد تؤدي إلى اتهام الجانب الروسي بارتكاب جرائم إبادة جماعية للشعب الأوكراني.

أجرت لجنة موس تحقيقاتها في ظل حماية القوات المسلحة الأوكرانية، وأصدرت تقريراً في 23 أيلول الماضي خلُص- كما كان متوقعاً – إلى أن الروس قد ارتكبوا “جرائم حرب”. ولم يكن مفاجئأً أنه خلص أيضاً إلى أن الروس قد “انتهكوا السلامة الشخصية، بما في ذلك الإعدام، والتعذيب وسوء المعاملة، بالإضافة إلى ارتكاب جرائم اغتصاب لضحايا تتراوح أعمارهم بين 4 و 82 عاماً”.

وعليه من غير المستغرب أنه لم يتم ذكر الجرائم الموثقة بشكل دقيق للجيش الأوكراني منذ عام 2014 فصاعداً، لا سيما في دونباس.

تعمل رابطة المحامين الدولية بشكل وثيق مع نقابة المحامين الأوكرانيين للتحضير للمحاكمات الجنائية التي ستجرى في أوكرانيا أو أمام المحكمة الجنائية الدولية، حيث أعلن المدير التنفيذي للإتحاد الدولي للمحامين “مارك إليس” مؤخراً، كون روسيا ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية لا يشكل أي مشكلة، ويمكن توجيه الاتهام إلى السلطات السياسية والعسكرية الروسية ومحاكمتها، وفي حالة الإدانة وتغيير النظام، يمكن اعتقالها أينما كانت.

وبدورها، زعمت الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة المسؤولة عن القضايا المتعلقة بالعنف الجنسي” براميلا باتن” في مؤتمر صحفي في باريس يوم 14 تشرين الأول الفائت أن عمليات الاغتصاب، والتشويه والاعتداء الجنسي هي جزء من الاستراتيجية العسكرية الروسية.

وهنا أيضاً لابد من الإشارة إلى أنها، لم تقدم أي دليل، لكنها ببساطة رددت كالببغاء تقرير لجنة التحقيق برئاسة القاضي موس المشار إليه أعلاه.

ينتهز جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، كل مناسبة ممكنة “لتهديد” روسيا عسكرياً، وفي الوقت نفسه يتباهى بمدى عظمة العدالة الجنائية الدولية.

من الجدير بالذكر أن بوريل كان قد أدلى بتصريحات خلال افتتاح الأكاديمية الدبلوماسية الأوربية الجديدة في بلجيكا، قال فيها أن “أوروبا حديقة بينما بقية العالم غابة تهدد بغزو الحديقة”.

وأضاف: “الأدغال يمكن أن تغزو الحديقة، وعلى البستانيين أن يتولوا أمرها، لكنهم لن يحموا الحديقة ببناء الأسوار، حديقة صغيرة جميلة محاطة بأسوار عالية لمنع الأدغال لن تكون حلاً، لأن الأدغال لديها قدرة هائلة على النمو، والأسوار مهما كانت عالية لن تتمكن من حماية الحديقة، على البستانيين أن يذهبوا للأدغال وتعليم شعوب الغابة المتخلفة كيف ينبغي أن يعيشوا”.

نتاج نظام عالمي أحادي القطب

كان تشكيل أول محكمة جنائية دولية بعد نورمبرغ في التسعينيات مهماً للغاية، حيث لم يكن ذلك ممكناً قبل عام 1990. وبحسب، المدعي العام الأمريكي السابق  رمزي كلارك: “من المؤكد أنه لن يكون هناك وجود للأمم المتحدة لو تمت الإشارة بأي شكل من الأشكال بأنه ستكون هناك محكمة جنائية، فلو تم وضع القرار في الميثاق مباشرة، لكان الاجتماع قد انتهى حينها”.

يمكن القول، إن المحاكم التي تأسست في التسعينيات هي نتاج خالص للنظام العالمي الجديد الذي أعلنه جورج بوش الأب بعد سقوط الاتحاد السوفيبتي السابق، حيث كان من المقرر أن يكون نظاماً عالمياً أحادي القطب بقيادة الولايات المتحدة، وتسيطر الولايات المتحدة على المؤسسات الدولية، وتسن القوانين، وتحدد الأشخاص المذنبين، وتُصدر لوائح الإتهام، والمحاكمة، والعقوبة، بينما تظل غير مسؤولة عن أفعالها.

تولت إدارة كلينتون زمام الأمور في عام 1993، وهو ما سيؤدي إلى إنشاء المحاكم التي تفاخر بها مفاوضه على أنها “كبش مدمر” في تنفيذ سياسة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي”.

يقول رمزي كلارك: “من المؤكد أنه لا يمكن الاستهانة بالخطأ الأساسي في اختيار الأشخاص للمحاكمة، فأعداءهم هم من يختارونهم. إنها حقاً حرب بوسائل أخرى وهي قاسية جداً”.

هذه هي الطرق التي تتبعها المحاكم، ففي يوغوسلافيا السابقة على سبيل المثال، تم توجيه الاتهام إلى الصرب بشكل أساسي، ومع ذلك لم يتم ذكر كلمة واحدة عن قصف الناتو الشامل، وتدمير يوغوسلافيا السابقة.

كانت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا أشبه بالمحاكمة الصورية والاستعراضية، حيث تمت محاكمة الصرب بشكل أساسي، ولكن لم تتم مقاضاة أي من مسؤولي الولايات المتحدة، أو حلف شمال الأطلسي.

ربما كانت المحكمة الجنائية الدولية لـ رواندا أسوأ حالة لعدالة المنتصرين، ففي حين اندلعت الحرب أثناء وقوع تلك الأحداث، لم يتم توجيه الاتهام إلا لأعضاء الحكومة السابقة، أو معارضي الجبهة الوطنية الرواندية وزعيمها بول كاغامي، الذي كان مدعوماً من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. كانت المحكمة الجنائية الدولية لـ رواندا مسيسة بشدة إن لم تكن أكثر من محكمة يوغسولافيا.

على الرغم من الأدلة الدامغة على الجرائم التي ارتكبتها الجبهة الوطنية الرواندية وبول كاغامي نفسه، والذي تسبب في عمليات القتل الجماعي في رواندا بغزو البلاد بشكل غير قانوني من أوغندا، فكما تشير الأدلة، فقد أسقط متشددين من الهوتو طائرة تقل الرئيس الراوندي جوفينال هابياريمانا، ومع ذلك تمتع هو وجيشه بالكامل بإفلات تام من العقاب. ماذا حدث للأشخاص الذين برأتهم المحكمة الجنائية الدولية لرواندا أو حكمت عليهم، وألئك الذين حكمت عليهم  وأطلقت سراحهم في النهاية؟.

باختصار، لا يزال بعض الأشخاص الذين تمت تبرئتهم أو “المفرج عنهم” قيد الإقامة الجبرية في النيجر بعد سنوات من تبرئتهم أو “إطلاق سراحهم”، دون إعطائهم جنسية، وبدون أوراق، ولا يملكون الحق في الانضمام إلى عائلاتهم، أو التخلي عنهم من قبل المحكمة الدولية الاعتباطية.

كما تم إرسال آخرين إلى مستعمرات القرن الحادي والعشرين الجنائية في بنين ومالي والسنغال، ولكن ليس إلى لاهاي مقر المحكمة الجنائية الدولية، ما يعني إنه فصل عنصري قضائي للأفارقة.

وهنا لابد لنا من التساؤل، كيف يمكن للمفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن تعهد بالتحقيق في الجرائم في أوكرانيا إلى قاض مثل إريك موس الذي ترك مثل هذا الانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان في أعقابه، والتزم الصمت بشأن حل المشكلة؟.

من الواضح أن الدعوات الحالية لتوجيه لوائح الاتهام ضد السلطات الروسية، والمواطنين والرئيس الروسي تشبه تماماً ما فعله حلف شمال الأطلسي في عام 2011 في ليبيا ورئيسها معمر القذافي.

في شهر آذار لعام 2011، بعد وقت قصير من إعلان سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة سوزان رايس أن القذافي كان يحرض جنوده على الاساءات الأخلاقية، رفع المدعي العام المطيع للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو الرهان، قائلاً إن القذافي أمر باغتصاب مئات النساء، وهنا أيضاً لم يتم تقديم أي دليل.

كما أرسلت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بسرعة محققين لتحديد الجرائم المرتكبة، بما في ذلك الاغتصاب من قبل القوات المسلحة الليبية. وعندما صدر تقريرهم في آذار 2012، خلص المحققون إلى أنه لا يوجد دليل على أي سياسة ممنهجة للعنف الجنسي.

ومع ذلك، أصر مورينو أوكامبو على أن السلطات الليبية الجديدة لديها أدلة دامغة في هذا الصدد، وبدا كأنه يريد تقديم المزيد من الدعاية لتبرير تدمير ليبيا، واغتيال معمر القذافي في 21 تشرين الأول 2011.

روسيا ليست ليبيا

يرى مراقبون أن روسيا ليست ليبيا، خاصةً وأن العالم أحادي القطب يتلاشى. ومع ذلك، فإن العادات القديمة لا تموت بسهولة، ويمكن أن تستمر في تدمير الناس والأرواح.

وعلى الرغم من أن مروجي ما يسمى بالعدالة الجنائية الدولية سيواجهون صعوبة في تحقيق أحلامهم، إلا أنه لا يزال بإمكانهم تسجيل نقاط دعائية، خاصةً عندما تكون معظم وسائل الإعلام الغربية المسيسة، راضية عن المتحدثين باسم حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.