ثقافةصحيفة البعث

“في المختار من الريحانيات”.. المسائل اللغوية الشائكة ما زالت موجودة

ملده شويكاني

“فأنا إذن والوادي سواء، في نفسي ما فيه من الظلال والخيالات والكهوف، في نفسي ما فيه من الصخور الشامخة والمنحدرات الهائلة، والسواقي الفائضة، والأنهر الجارية، في نفسي ما فيه من العصافير والجنادب والنسور، ومن الهوام والذئاب أيضاً، أيها القارئ البعيد القريب”.. بهذه الكلمات خاطب الشاعر أمين الريحاني القارئ في كتابه الريحانيات الصادر عن مؤسسة الهنداوي في القاهرة، في فصل “وادي الفريكة أو العودة إلى الطبيعة”.

وقد اختار الكاتب ديب علي حسن مقتطفات من فصول عدة اختزلت سيرة حياته وومضات من إبداعاته، وركز على القضايا والمسائل التي دعا إليها أمين الريحاني ومازالت شائكة حتى الآن “كأن الحكيم الريحاني مازال يعيش بيننا يلتقط ما يطرح من أسئلة كبيرة في قضايا الفكر والحياة” في المقدمة التي قدم فيها ما دوّنه عن أمين الريحاني في كتاب “المختار من الريحانيات” من سلسلة ثمرات العقول الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب.

لماذا أمين الريحاني؟

وأجاب الكاتب عن تساؤلات القارئ “لماذا أمين الريحاني؟”: لأنه الأديب الشامل والموسوعي، ويعد ركناً من أركان أدب المهجر، خاض كثيراً من المعارك الفكرية والثقافية مع أقرانه في المهجر، وحينما عاد إلى الوطن دعا إلى الوحدة العربية، وأولها سورية ولبنان، كما دعا إلى النضال للتحرر من الانتداب الفرنسي، وإلى التجديد باللغة وعدم الوقوع بمطب التكرار والنظم الممل.

وأشار ديب علي حسن إلى المقاربة بين مرحلتين عاشهما الريحاني، مرحلة غابات الإسمنت -نيويورك- ومرحلة الطبيعة في لبنان.

قرية الفريكة

بدأ من ولادته “في قرية وادعة تلفها أشجار اللوز والزيتون والتوت تسمى الفريكة، ولد أمين الريحاني سنة 1876، أبوه فارس وأمه أنيسة وهو أحد الأولاد الستة”، فتربى في بيئة دينية متشددة ضمن موارد بسيطة، وكانت تتجنب الاحتلال التركي، فنشأ على حبّ المغامرة واكتشاف المجهول في الطبيعة، ودرس في مدرسة بالقرب من الكنيسة، ثم نُقل إلى مدرسة أهلية.

وفي الثانية عشرة من عمره هاجر إلى أمريكا، وهناك شغف بالقراءة، فقرأ مؤلفات في الأدب الإفرنجي، وفي عام 1898عاد إلى لبنان مريضاً وبدأ اهتمامه بالأدب العربي، ثم عاد إلى أمريكا بعد أن تماثل للشفاء، في 1899. وهناك حقق شهرة كبيرة وأصبحت مقالاته تنشر في أكبر الصحف العربية والأجنبية، فدعا إلى الإصلاح الاجتماعي وإنقاذ وطنه من الجهل والتخلف والتعصب الطائفي، وتحقيق الوحدة العربية.

في عام 1904، عاد الريحاني إلى لبنان واختار العزلة في الفريكة، وبعد ست سنوات سافر مجدداً إلى أمريكا، ولم يمكث طويلاً بعد إصابته بمرض عصبي، فعاد وبدأ نشاطه بالنوادي والملتقيات، وتوسع بالسفر إلى الدول العربية، وبعد خطاب ناري ضد الانتداب الفرنسي نُفي إلى العراق في عام 1933.

عالم التناقضات

وفي فصل “فوق سطوح نيويورك” استعرض التناقضات بين عام الأثرياء والفقراء الزنوج الذين يعملون بالمناجم والسكك الحديدية، فكتب عن العبوديات المتعددة في الولايات المتحدة، مثل العبودية في المعادن والعبودية في آبار الغاز والعبودية في معامل الأنسجة وغيرها: “لا يمضي شهر إلا ويحدث في معادن الفحم في هذه البلاد وفي غيرها كوارث تقضي على مئات وألوف من المعذبين بالموت السريع، فكم مرة انهالت الأرض على أولئك المستبعدين، وهم على أشغالهم مكبّون قانعون”.

وتابع بما أسماه عالم التجارة وحركة الضوضاء: “اضطراب هائل في البورصة، وسقوط عظيم في الأسهم. قد بلغت الخسارة في ساعة واحدة خمسين مليون دولار بسبب سقوط الأسعار الفجائي” متسائلاً عن الخسارة والكسب في هنيهة من الزمن.

موقفه من اللغة 

وفي الكتاب توقف الكاتب عند أهم مواقف الريحاني مثل موقفه من سورية بـ”أنا سوري أولاً ولبناني ثانياً” ومن حكومة المستقبل “حكومة صغيرة إلا في عدلها، حكومة محدودة، إلا في صلاحها” وموقفه من روح اللغة، والملفت أنه انتقد ما يتم نقده الآن من تفشي الألفاظ الأجنبية أثناء الكتابة أو الحديث باللغة العربية “فخيل إليّك، وأنت تطالع ما ينشرون أنك تقرأ لغة أجنبية في ألفاظ عربية” إضافة إلى نقده الركاكة والضعف اللغوي، ودعا إلى نمو اللغة وتجديدها.

ورأى أن الكاتب النابغة ليس من كان بديعياً فقط، وإنما من حسن الذوق في الفنون كلها “فيستعمل الألفاظ كما يستعمل العوّاد الأوتار، وينظم المعاني كما ينظم الرسام الألوان، ويبني جمله مقالاً كما يبني النحات نصباً أو تمثالاً”.

الدراجة والطرق الملتوية

أما وفاته فكانت غريبة وحزينة إذ أيقظته الذكريات إلى شبابه حينما رأى شاباً يقود دراجة، فاستعارها منه وقاد الدراجة وهو في الرابعة والستين “انطلق بها في طريق جبلي كثير الأخاديد والحصى، وقد نسي تماماً تلك الرجفة العصبية التي تنتابه من حين إلى آخر” فهوت به وأصيب برضوض نقل إثرها إلى المشفى، وبقي يصارع المرض إلا أن طلب من أهله أن ينقلوه إلى منزله، فتوفي في الثالث عشر من أيلول عام 1940.

وآخر ما كتبه “وإنه لوجع مقدس ذاك الذي يسوقنا صاغرين إلى القدرة التي انبثقنا منها”.