دراساتصحيفة البعث

بحر البلطيق بؤرة التوترات القادمة

هيفاء علي 

في السنوات الأخيرة، أدّت حرب ناغورنو كاراباخ أولاً، ثم الصراع العنيف في أوكرانيا إلى تأجيج السيناريوهات التي اعتبرها المحللون وصناع القرار حاسمة للنظام الدولي، حيث أدت نهاية القطبية الثنائية والتلاشي السريع لليوتوبيا الأحادية القطب للعالم الذي تقوده الولايات المتحدة إلى تحول النظام العالمي إلى اضطراب دولي كبير، فوضوي وبدون قواعد دقيقة، ما أدى بالنتيجة إلى تصاعد التوتر على خلفية الانهيار التدريجي المتزايد للضوابط والتوازنات التي تحدّ من ميزان القوى.

كما أدى تراجع القطبية الثنائية وسيناريوهات الحرب الاقتصادية الهجينة التي ظهرت في سياقات مختلفة إلى القيام بالباقي، مما أدى بشكل أساسي إلى جعل القوى في أجزاء مختلفة من العالم على اتصال، ومهد الطريق لصراعات مجمدة أو منخفضة الحدة على وشك الاستيقاظ في مناطق متنازع عليها بشدة في العالم بين القوى، حيث تعود نقاط الاتصال بين الإمبراطوريات القديمة والجديدة إلى الصدام في مناطق ذات مطالب سياسية متعددة، وبالتالي باتت مناطق التوتر حيث يمكن أن تنفجر الحرب القادمة، كثيرة.

ولعلّ أقرب أمثلة على ذلك، الحروب بالوكالة التي شنها الغرب على منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأولها الحرب الكونية الشرسة على سورية دولةً وشعباً، والتي لم يبق إرهابي في العالم إلا وتم استقدامه إلى ميدانها لتدمير الحجر والبشر، حيث حاربت الدولة السورية الإرهاب العالمي نيابة عن العالم بأسره، وأحبطت الأهداف التي كان الغرب يعول عليها عندما شنّ حربه القذرة هذه، بفضل تضحيات وبطولات الجيش العربي السوري، ووقوف السوريين إلى جانب القيادة والحكومة والجيش. وهناك أيضاً اليمن وليبيا هما أيضاً دولتان مزقتهما الحروب الخارجية، وأولوياتهما اليوم هي الخروج من المستنقع الذي يعتبرهما مناطق صراع وحروب بالوكالة بين خليط القوى غير المتجانسة.

يمكن أن تكون “الثقوب السوداء” إشكالية بالنسبة للتقاضي المتعلق بانهيارات الدولة المحتملة أو تسلل الإرهابيين إلى البلدان ذات الطابع المؤسسي المنخفض، لكن المشكلة الحقيقية اليوم تظل نقاط الاتصال المحتملة بين القوى العظمى، حيث تتواجد فضاءات يكون فيها خطر المواجهة بين تكتلات السلطة مباشراً.

من الواضح أن الفكرة الأولى التي تتبادر إلى الذهن هي بحر الصين الجنوبي، والمواجهة بين الصين والولايات المتحدة، ففي الأشهر الأخيرة أظهرت التدريبات البحرية التي أجرتها بكين في مضيق تايوان، وزيارة رئيسة مجلس النواب في واشنطن نانسي بيلوسي إلى الجزيرة التي تعتبرها بكين “مقاطعة متمردة”، توترات وتنافساً سياسياً بين العملاقين. ومنذ بداية عام 2022، عسكرت الولايات المتحدة المحيط الهادئ، وهي تتولى أيضاً العمليات في المحيط الهندي بأسطولين، الأول والسابع، مع حاملات الطائرات “نيميتز، وكارل فينسون ورونالد ريغان وثيودور روزفلت” المنتشرة في سان دييغو وأبراهام لنكولن في يوكوسوكا باليابان، بالإضافة إلى تايوان المدججة بالسلاح بزعم الدفاع عن نفسها، حيث من الواضح أن واشنطن تعتمد على اليابان وفيتنام لاحتواء الصين. كذلك هناك كشمير، وجزر الكوريل، وأراض متنازع عليها في آسيا أيضاً.

بعد نقطة التحول في 24 شباط 2022، مع بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، أصبحت “البحيرة” الأطلسية الجديدة، بحر البلطيق، النقطة الأكثر أهمية في المواجهة بين المعسكر الأوروبي الأطلسي والاتحاد الروسي، ذلك أن منطقة البلطيق هي المنطقة التي يكمن فيها خط توسع الناتو، والمقرر أن يمتد إلى السويد وفنلندا في السنوات القادمة. وهي تتأثر بالوجود الروسي الظاهري في كالينينغراد ومنطقة سانت بطرسبرغ المزودة بعدد كبير من الموظفين، ولديها أكبر أسطول روسي في المنطقة، وفي الوقت نفسه وجود القوات المسلحة للدول الأوروبية الأكثر عداءً لموسكو مثل إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وخاصة بولندا.

من هنا يمكن أن يكون بحر البلطيق بؤرة التوترات في السنوات القادمة، ومحوراً أوروبياً لاضطراب عالمي كبير تقترن فيه الاضطرابات الصغيرة والمتوسطة بتحديات كبيرة. وبالتالي، من يستطيع أن يزرع بذور صراعات جديدة في السنوات القادمة؟.