مجلة البعث الأسبوعية

محاذير تعويم سعر الصرف.. انخفاض حتمي بقيمة الليرة مقابل الدولار ومزيد من ارتفاع تكاليف الواردات.. والتجربة المصرية خير دليل!

“البعث الأسبوعية” ــ حسن النابلسي

ليس عبثاً أن يتصدّر سعر الصرف المشهد الاقتصادي بامتياز، فأي تغيير يطرأ عليه سرعان ما ينعكس على المفاصل الاقتصادية كافة، وعلى حركتها التجارية من ألفها إلى يائها، فهو المتحكم بالقوة الشرائية للمستهلك ومدى تحسّن أو تدهور وضعه المعيشي. والحقيقة، وبعد انخفاض سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى مستوى قياسي غير مسبوق نهاية العام الفائت، شهدت الليرة بداية العام الجديد تحسناً يتوقع أن يستمر إلى مستوى يعيد لليرة توازنها بما يتوافق مع المتغيرات الطارئة. وبالتوازي مع ذلك، خفّض مصرف سورية المركزي أسعار صرف الليرة والحوالات والبدلات مقابل الدولار، في خطوة تستهدف تضييق الفجوة بين السعر الرسمي ونظيره في السوق الموازية!

اعتلاج!

في خضم حالة “الاعتلاج” هذه، كثر الحديث عن “تعويم سعر الصرف”، واعتماده كمنهج جديد للسياسة النقدية، وذلك من خلال جعل سعر صرف الليرة محرراً بشكل كامل، بحيث لا تتدخل الحكومة أو المصرف المركزي في تحديده بشكل مباشر، وإنما يتم إفرازه تلقائياً في سوق العملات من خلال آلية العرض والطلب التي تسمح بتحديد سعر صرف الليرة مقابل العملات الأجنبية.

أحد الأدوات.. ولكن!

وللوقوف على انعكاسات هذا الأمر وارتداداته على الاقتصاد عامة وقيمة الليرة خاصة، سنحاول تشخيص مدى نجاعة المقومات الكفيلة باتخاذ هكذا إجراء. والبداية مع خبير نقدي – سبق أن شغل مديراً مركزياً في مصرف سورية المركزي – بيّن أن التعويم هو أحد أدوات السياسات النقدية التي تستخدم بهدف أساسي هو القضاء على تجارة السوق السوداء للمضاربات. لكن في حال مثل حالنا، فإن التعويم سيؤدي إلى انخفاض حتمي بسعر الليرة السورية مقارنة بالدولار، وذلك نتيجة الطلب الكبير الذي سيصاحبها على العملة الخضراء، وشح هذه العملة، وفقدانها من الأسواق، نتيجة اكتنازها بشكل كبير من قبل أصحاب الثروات “المستجدين”، والذين سيمتلكون ثروات هائلة وضخمة، وبشكل علني ومستمر، وهذا أمر لا يمكن لأحد إخفاؤه أو إنكاره، كما أن مكتنز الدولار سيستمر بالاحتفاظ بهذه العملة نظراً لنظرته السلبية تجاه الليرة، وهذا من ناحية داخلية.

أما من ناحية خارجية فلا يمكن إنكار سياسة التجفيف في بلدنا المتبعة من قبل صاحبة الدولار “الولايات المتحدة”، ولا تتوقع أن تقف هذه الإمبراطورية المتوحشة، والمعادية والمحاصرة لبلدنا – هي وعملاؤها – على الحياد وفي موقف المتفرج. وقال الخبير: أنا على يقين بأن التدهور الذي سيحصل سيكون مخيفا، ولن يكون التضخم بمستوياته المقبولة، ولا غير المقبولة أبداً، بل سيكون تضخماً مخيفاً ومرعباً جداً!

تمّ دون قرار!

وعلى اعتبار أن التعويم هو ترك تحديد سعر صرف العملة المحلية في التبادلات دون تدخل من الدولة (ممثلة بمصرف سورية المركزي)، فإن عملية تعويم سعر صرف الليرة السورية قد تمت منذ سنوات دون قرار رسمي، وذلك حسب ما تراه الاقتصادية الدكتورة رشا سيروب، والتي أشارت إلى أن هناك اعترافا حكوميا بذلك، حيث تقوم الحكومة بين الفينة والأخرى بتبرير جزء كبير من قراراتها ورفع رسومها وأسعار العديد من السلع – حتى المدعومة منها – بأنه ناتج عن ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي رغم ثباته في النشرات الرسمية.

سعر صرف حرّ!

وأضافت سيروب أنه ورغم تعدد أسعار الصرف (الدولار الجمركي، دولار الحوالات، دولار البدلات) التي يصدرها مصرف سورية المركزي، أي أن نظام الصرف الرسمي هو نظام سعر صرف ثابت، لكن في واقع الأمر هو ليس إلا نظام سعر صرف حر “غير معلن”، حيث أن العقارات والسيارات والذهب والمعاملات التجارية يتم تقييمها وتسعيرها وفقاً لسعر الصرف المتداول في السوق السوداء الخاضع للعرض وللطلب، وهو أمر ليس بجديد، بل بدأ العمل به منذ بداية الحرب في سورية، عندما أصبح الدولار يُقتنى ليس فقط كوسيلة لتسوية المعاملات الاقتصادية “بالسر” بل للادخار أيضاً، نتيجة لتهاوي قيمة الليرة السورية مقابل كافة العملات والمعادن الثمينة والأصول والممتلكات.

 مثال قريب!

إذا كان التعويم قائماً فعلياً دون قرار رسمي، فهل من الأجدى أن يكون التعويم رسمياً؟

هذا السؤال لطالما شغل الساحة الاقتصادية في سورية منذ سنوات. ويستغرب البعض – بما أن السوق السوداء هي المستحوذ الأكبر على حجم المعاملات بالقطع الأجنبي – لماذا لا يتم تعويم سعر صرف الليرة السورية؟

وهنا تبيّن سيروب أنه يجب ألا يخفى على أحد، بداية، أن تعويم العملات المحلية هو مطلب أساسي من متطلبات صندوق النقد الدولي كي تتمكن الدول من الحصول على قروض وتسهيلات ائتمانية بشروط ميسرة، وقد أثبت التاريخ أن الدول التي طبقت هذه الوصفة ازدادت مشكلاتها الاقتصادية. وخير مثال من التاريخ القريب على ذلك، ما تعاني منه مصر حالياً التي انصاعت لطلبات صندوق النقد الدولي، وحصلت على مليارات الدولارات، لكن لم تتمكن من تحسين واقعها الاقتصادي. بل على العكس، تشهد مصر اليوم المزيد من التدهور في قيمة عملتها وارتفاع معدلات التضخم، فهذا هو حال مصر – المستقرة أمنياً وأقوى اقتصادياً من سورية – فكيف سيكون حال سورية التي تعتمد على الاستيراد في الوقت الراهن؟ وبالتالي، فإن نظام تعويم سعر الصرف هو نظام يناسب الاقتصاديات القوية، وله متطلبات غير متوافرة لدى اقتصاد سورية الهش الذي أرهقته الحرب، وأي تفكير بتعويم الليرة السورية هو تفكير خاطئ وسيؤدي – في حال تنفيذه – إلى تسريع حركة هبوط الاقتصاد نحو الهاوية.

لم يلغ السوداء!

وفي هذا السياق، يبين الخبير النقدي، أيضاً، أن مصر انتهجت سياسة التعويم فانخفض سعر الصرف لديها، أقله بالآونة الأخيرة، ما يقارب ٣٥ بالمئة من قيمة الجنيه رغم وجود مداخيل كقناة السويس والسياحة والحوالات الخارجية الضخمة والغاز.. إلخ، مشيراً إلى أنه ورغم ما شهده الاقتصاد المصري من قفزات في معدلات النمو إلا أن التعويم لم يلغ السوق السوداء والمضاربات، بل نشطت بشكل مخيف ما أدى إلى تشديد العقوبات وتشديد القبضة الأمنية على الصرافين والمضاربين وتطبيق أشد العقوبات بما يصل إلى ١٠ سنوات سجن!

لا يمكن تلبيتها!

إن تعويم العملة المحلية بحاجة إلى متطلبات، لا يمكن تلبيتها في ظل الواقع الاقتصادي المأزوم الذي تعيشه سورية. ومن هذه المتطلبات – حسب سيروب – وجود وفرة في الاحتياطي الدولي (القطع الأجنبي) حتى يكون المصرف المركزي قادراً على التدخل كبائع للعملات الأجنبية (ضخ حاجة السوق من النقد) عند انفلات سعر صرف الليرة السورية، فمنذ بدء الحرب، تحول الميزان التجاري للسلع والخدمات إلى قيم سالبة وصلت إلى 19% من مجمل الناتج المحلي الإجمالي، علماً أنها بلغت بالمتوسط كقيمة موجبة (2.87%) خلال السنوات 2000 – 2010، ويعود سبب ذلك إلى فقدان سورية المصدر الرئيسي من مصادر تأمين القطع الأجنبي (النفط)، وتحولها إلى مستورد للنفط والقمح بعد أن كانت مصدّراً، فضلاً عن جمود قطاع السياحة.

لا إمكانية!

وخلصت سيروب، بالتالي، إلى أنه لا يمكن اللجوء إلى خيار التعويم، إذ لا تمتلك سورية سيولة دولارية كافية لمواجهة المضاربة على الليرة السورية. وحتى لو استطاع المصرف المركزي التدخل (كما حدث مؤخراً) إلا أنه لا يوجد إمكانية لاحقة لترميم الاحتياطي النقدي، ما يعيدنا إلى نقطة البداية مرة أخرى، مع مزيد من انهيار سعر الصرف، الذي سيقود إلى حالة من عدم الاستقرار في أسعار السلع وارتفاع تكاليف الإنتاج ومزيد من تعميق الأزمة للمشهد الاقتصادي، وهو ما نعيشه اليوم.

 لا إيجابيات!

في الحالة السورية، فإن سياسة تحرير سعر الصرف لا تتضمن إيجابيات، فالتعويم يتطلب تنويع الاقتصاد لتحقيق نوع من التوازن في العرض والطلب، لكن سورية تحولت إلى مستورد صافٍ للعديد من السلع الأساسية، مع عدم وجود قطاعات مستقرة على مستوى الصادرات، بالتالي عدم قدرة مصرف سورية المركزي على الحفاظ على سعر صرف الليرة السورية، أي مزيد من ارتفاع تكاليف الواردات التي ستنعكس على القدرة الشرائية للمستهلك وخاصة الفئات الفقيرة والأكثر هشاشة.

والتعويم يتطلب اقتصادا قويا، فالاقتصاد القوي هو الذي يزيد الاحتياطي الدولي، مما يؤمن وفرة في العملات الصعبة، لكن الاقتصاد الهش لا يمكن أن يؤمن فائضاً في الصادرات، بالتالي فإن سورية ليست في ظروف تخولها تعويم الليرة، فالوقت غير ملائم لتحرير سعر الصرف، مما يشير إلى استبعاد خيار تعويم الليرة السورية حتى كفكرة.

هشاشة الإنتاج!

انخفاض سعر العملة عادة يترافق مع زيادة الصادرات بالأحوال العادية وانخفاض في المستوردات والاعتماد على الإنتاج المحلي، ولكن بحالتنا، وبدولة ما زالت تنهض من تحت ركام أزمة قاسية وغير مسبوقة، لن يؤثر هذا الانخفاض على زيادة الصادرات – وفقاً للخبير النقدي – كون الإنتاج أساساً أقل من حدوده الدنيا، فتصدير كيلو بصل واحد يؤثر على السوق المحلي، وإن دلّ هذا على شيء فإنه يدل على هشاشة الإنتاج لدينا.

وأشار الخبير النقدي إلى أن انخفاض قيمة العملة سيؤدي إلى انخفاض الاستيراد نظراً لارتفاع أسعارها، والاعتماد على الإنتاج المحلي، ولكن – بحالتنا – الاستيراد أيضاً هو في حدوده الدنيا، واعتمادنا على الإنتاج المحلي بحدوده القصوى، إلا أن القدرة الشرائية للمواطن معدومة، والاستهلاك بحدوده الدنيا، وهذه أعظم مشكلة تواجه اقتصادنا أساسا، ووقتها لن يكون راتب الموظف يكفي ثمن حزمة بقدونس.

أخيراً

يخضع سعر الصرف بتحديد قيمته إلى عوامل عدة، لكن أي انخفاض بسعر الصرف بشكل كبير بزمن قياسي هو حكماً مضاربة تدار من صفحات معادية بأيدي داخلية، هدفها إحداث هزات اقتصادية، ولذلك لا علاج لها إلا بكف هذه الأيدي حالياً، وبإجراءات يجب أن تكون حاسمة وبشكل أقوى، مع الإشارة أخيراً إلى من لا يعمل لا يخطئ، وأن إرجاع تدهور قيمة الليرة إلى العقوبات والحصار هو السبب الأهم. وإن كان ذلك هو الفعل، فإن رد الفعل هو بالكاد يذكر، كونه محصوراً بجهة معينة، ولوحدها، وباقي الفعاليات تبقى متفرجة وغير فعالة سوى بإيجاد الشماعات!