ثقافةصحيفة البعث

نظريات في قفص الاتهام

أمينة عباس

يتناول الكاتب والباحث محمود بدوي نقشو، في آخر إصداراته، “نظريات في قفص الاتهام”، عناوين عديدة، منها: النظرية من المدلول إلى الثورة الرقمية، لعنة النظرية، النظريات الشريرة كنظريات الهيمنة والاستلاب والإبادة ونظريات الاستعلاء والعنصرية ونظريات الصراع الدولي ونظريات السيطرة الإعلامية ونظريات الاستعمار وما بعد الاستعمار ونظريات التحول الثقافي والنظريات التي خرّبت العالم والتي لخصها نقشو بـ: نظرية الليبرالية الجديدة، نظريتا التدمير الإبداعي والفوضى الخلّاقة التي تبنّتها الولايات المتحدة تجاه العالم عموماً والشرق الأوسط والمنطقة العربية خصوصاً وأصبحت أسلوباً جديداً لإدارة وتوجيه مصالحها وأهدافها.

نظريات سقطت وأخرى بقيت

ويبيّن الكاتب في مقدمة الكتاب أن النظرية تعمل على تنظيم المعرفة العلمية وبنائها، فهي التي زوّدت العلم بالمنهجية والمفاهيمية، وفجّرت في الإنسان طاقة التحرر من التصورات الجامدة الساكنة، وعظَّمت الفعل النقدي في الفعل المعرفي المنجز.. والنظرية كما تُنسَب للعلم والمنهج تُنسب للعقل الذي قال فيه أبو العلاء المعرّي مقولته الخالدة “كذب الظن، لا إمام سوى العقل”، ووصفه الفرنسي ديكارت، أبو الفلسفة الحديثة، في بداية القرن السابع عشر، بأنه “أعدل الأشياء قسمة بين الناس”.

وأشار نقشو إلى أن نظريات سقطت وبقيت أخرى في التاريخ، قديمه وحديثه، وتلك هي سمة النظرية القابلة دوماً للنقد والمراجعة، وكل نظرية ليست لها تلك الحيوية تنتهي بانتهاء زمنها وتفقد صلاحياتها، إلا إذا عُدّت حقيقة لا تقبل التغيير والتعديل.. حينها، تغدو النظرية المدّعاة فلسفة أو أيديولوجيا، حسب ما صرّح به الأميركي روبرت بلاك.

ويرى نقشو في كتابه أن بعض النظريات تفوح منها رائحةُ الحياة، وبعضها الآخر تفوح منها رائحةُ الدم والنفط والاستعباد وتسويغ الاستعمار والقتل ونهب الثروات مثل نظريات غوبل، ميكافيللي، مالتوس، داروين، ليدن، بريجنسكي، فوكوياما، هنتنغتون وهي تسوّغ ما تسوغه من توجهات الهيمنة، وتنظّر لمصائر أمم وحضارات عظيمة لا تطلب غير العيش الكريم والإسهام بما تمتلك في إعمار هذا الكوكب، لكنها تصطدم في حاضرها ومستقبلها بتلك النظريات الشريرة، موضحاً نقشو أن النظرية عُرِفت منذ عُرفَ معنى العلم الذي خصّه أرسطو بـ “إدراك الكلّي” وما زالت تكتسب الحيوية نفسها، وما زالت تحد دلالتها وتعددها كما دلالة العلم نفسه، وبإحالة العصر الحديث برمته إلى العلم في ضخامة إنجازه ومعارج تقدّمه يحال العصر أيضاً إلى النظرية بالقدر الذي يوازي ما أحدثه العلم، والنظرية هي التي أمدّت العلم بأجهزته المنهجية والمفاهيميّة، وفجَّرت في الإنسان طاقة التحرر من التصورات الجامدة والساكنة، وعظّمت الفعل النقدي والمعرفي، وأوضح دليل على ما يدين به العصر للنظرية كمية المادة النظرية وتنوعها وجوهريتها في القرنين الأخيرين، وقد مثّلت النظرية العلمية التفسير الأفضل للحقائق المرئية في الطبيعة، والتي تم الوصول إليها باستخدام الأساليب العلمية، إذ تختبر مراراً وتكراراً، وتؤَكّد باستخدام الملاحظة والتجربة.. والنظريات العلمية تكون بهذا هي الشكل الأكثر موثوقية ودقة وشمولية في المعرفة العلمية.

وأكد نقشو أن التفريق مهم بين استخدامها في مجال العلوم واستخدامها لدى العامة حيث تكون عادة بمعنى الحدس أو الرأي، وذاك النقيض لمعنى النظرية لدى العلماء، إذ يستخدمون النظريات العلمية أساساً لاكتساب مزيدٍ من المعرفة وتحقيق الأهداف ومنها اختراع التكنولوجيات المختلفة وعلاج الأمراض وسوى ذلك، والمعرفة المكتسبة من خلال النظريات العلمية تُعدّ استقرائية واستنباطية، بمعنى أن لها قدرات تفسيرية وتنبؤيّة، وهذا مكمنها، منوهاً كذلك إلى أن النظريات هي الطريقة الأهم في فهم العالم، وللشريرة منها تاريخ من التحيز الثقافي والعلم القبيح للسيطرة عليه عبر العلم العنصري ونظريات الهيمنة والسيطرة والاستلاب والفقر والتخلف والتصنيف العرقي البغيض، وما النظريات الشريرة – برأي نقشو – إلا الخلفية الفكرية لهذا العلم العنصري، وقد اختلطت بالسياسة أو الدين أو كليهما، فغدا العلم قنابل نووية وهيدروجينية وتلاعباً بالجينات والأمراض والمناخ، فصار العالم مخيفاً، والمستقبل مغامرة العابثين.

وأشار نقشو إلى أنه اليوم وبعد سقوط المثاليات السياسية والأيديولوجية التي تسببت بخراب وموت كبيرين في العالم بموجب الحرب (العالمية منها والمحلية) يكتشف الإنسان مجدداً أن الشر موجود ولا يقتصر على الأوهام أو على حوادث تاريخية معيّنة، بل يلتصق بجوهر الإنسانية كما ينبه الفرنسي أندريه سبونفيل إلى أن الالتباس الحاصل في العالم بين السياسة والأخلاق كبير وخطير ويؤدي إلى التعصب بضمير مرتاح وينبّه آخرون إلى توخي الحذر في نظريات الاقتصاد والبيئة لأن الاثنتين الأكثر خطراً في القادم من أيام الشر، فالعالِم له القدرة على توظيف العلم فيه باستخدام النظرية في التصدي للمهام الكبرى وتسويغ مشروعات السيطرة وإلغاء الآخر.

يُذكر أن الكتاب صادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب ويقع في 559 صفحة من القطع الكبير.