دراساتصحيفة البعث

الولايات المتحدة… تقنيات إدارة السرد لها حدودها

عناية ناصر

يرى الأمريكيون أن التفاؤل هو أحد السمات المميزة للأمريكيين، بدءاً من المستعمرين الذين أتوا إلى القارة لبناء حياة أفضل لأنفسهم وأجيالهم القادمة، حيث أصبحت هذه العقلية تنعكس في كل شيء من الثقافة إلى السياسة.

إن فكرة التقدم المادي والتكنولوجي وحتى الاجتماعي مفترضة ببساطة، ومع ذلك، مع بداية عام 2023، اعتقد أربعة من كل خمسة أشخاص أن العام الجديد سيكون أسوأ، كما أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “غالوب” على عينة تمثيلية لسكان الولايات المتحدة في كانون الأول الماضي، أن حوالي 80 في المائة مقتنعون بأن الضرائب سترتفع وأن الوضع الاقتصادي سيزداد سوءاً.

وحول سؤال يتعلق بالأسعار، يعتقد حوالي 65 في المائة من المستطلعين أن الأسعار سترتفع بشكل كبير، كما توقع غالبية الذين شملهم الاستطلاع ارتفاع معدلات البطالة، وهبوط أسواق الأسهم، والمزيد من الإضرابات النقابية في المستقبل. إضافة إلى ذلك توقع ما يقرب من ثلاثة أرباع ممن شملهم الاستطلاع  أن تزداد معدلات الجريمة بنسبة أعلى، و 90 في المائة  منهم توقعوا  صراعاً سياسياً داخلياً، بينما توقع 85 في المائة خلافات دولية.

بالنظر إلى كل ما يجري، يميل المرء إلى استنتاج أن الأشخاص الذين لديهم أي نوع من التفاؤل هم ببساطة خارج أذهانهم، ففي جميع المجالات، يميل أولئك الذين يعتبرون الديمقراطيين – الحزب الموجود حالياً في السلطة – إلى أن يكونوا أكثر تفاؤلاً، كما أنهم يميلون إلى تصديق وسائل الإعلام والحكومة أكثر، وتجاهل الأدلة الواضحة، وتصديق الروايات التي تدفع بها المؤسسة السياسية. ولعل أحد الأمثلة هو أن 69 في المائة من الديمقراطيين الذين شملهم الاستطلاع يعتقدون أن البطالة ستنخفض، على الرغم من أن نقص العمالة أصبح مزمناً. وفي الوقت نفسه، تستشهد وسائل الإعلام باستمرار بالأرقام الرسمية التي تدعي خلق فرص عمل ضخمة، لكنها لا تذكر الأرقام الصحيحة، لتكشف بعد أشهر أن الأرقام الحقيقية ضئيلة جداً. وبالمقارنة، فإن التفاؤل بين المستقلين يتراوح بين 30 و 40 في المائة، ويشبه الرسم البياني الخاص بالجمهوريين الذين يتشائمون بشدة بشأن كل شيء تقريباً.

إن أحد عوامل الاختلاف الرئيسية تكمن في الاعتقاد بأن روسيا ستصبح أضعف في عام 2023، وهو ما يشترك فيه قرابة أربعة من كل خمسة ديمقراطيين، وحوالي نصف الجمهوريين. ومع ذلك، قد يكون هذا هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة، حيث لا يستطيع الأمريكيون عموماً التحقق بشكل مستقل مما تخبرهم به وسائل الإعلام الأمريكية عن روسيا. وفي الوقت نفسه، يوافق 73٪ من الأمريكيين على أن قوة الصين ستنمو، وهو ما يتماشى مع الواقع الذي يمكنهم ملاحظته بسهولة.

وعندما يتعلق الأمر بالوضع السياسي الداخلي، يتوقع 13 في المائة فقط من الديمقراطيين، و5 في المائة من الجمهوريين أن يكون هناك تعاون سياسي، بينما يمكن للغالبية العظمى أن ترى، وتستشعر أن الأمر يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، الأمر الذي يشير إلى أن تقنيات إدارة السرد لها حدودها، لكن كل ذلك  لم يمنع الحكومة الأمريكية الحالية من الإصرار على أن كل شيء يسير على ما يرام، وأن سياساتها تعمل، وأن الأمور تتحسن، على الرغم من أن الأدلة على أرض الواقع تثبت خلاف ذلك.

إن وسائل الإعلام، التي تهدف إلى محاسبة السياسيين، تقبل بشكل روتيني هذه المزاعم دون سؤال وتهاجم المنتقدين، مما يزيد من تأجيج التصور بأن النظام السياسي لا يعمل على النحو المطلوب.

وقد أشار إيفو أندريتش، الدبلوماسي السابق، والحائز أيضاً على جائزة نوبل في يوغوسلافيا للأدب، إلى ملاحظة حكيمة حول الحالة البشرية قبل نصف قرن، حيث قال إن البقاء لفترة طويلة تحت حكم سيطرة أجنبية، أو حكومة سيئة، يمكن أن “تربك وتشل” فهم الناس للفطرة السليمة، لدرجة أنهم لا يستطيعون التمييز بين الخير والشر، أو ما هو مفيد مما هو ضار بشكل واضح. وبناءً على ذلك ،لا يحتاج المرء إلى خبرة أو فطنة لفهم مدى قرب هذه الحالة من الوضع الحالي في الولايات المتحدة، وإلى أنه لا يمكن أن يستمر إلى الأبد.