مجلة البعث الأسبوعية

بعد تحرير الأسعار التجار للحكومة: دعونا نعمل .. دعونا ننفلت .. حرّرونا  من الربط الالكتروني ومن “المنصة” !

البعث الأسبوعية ـ علي عبود

لا يكفّ التجار عن “تمنيننا” بأنهم يوفرون المواد الغذائية في الأسواق، ولولاهم لعانت البلاد والعباد من نقص خطير في السلع الأساسية، وكأنّهم يوفرونها مجانا، أو انطلاقا من  واجب “أخلاقي”، أو لحسهم الوطني العالي جدا!!

وبما أنهم يصدّقون ما يقولون فإنهم “يتدللون” على الحكومة، ولا يكفّون عن المطالبة بالتسهيلات والإعفاءات وتوفير الدولارات وتشريع الأبواب أمام الاستيراد دون شروط أو قيود!

ولا توجد سقوف لمطالب التجار، وكلما تحقق مطلب منها، أضافوا إلى قوائمهم المزيد من المطالب سعياً إلى الوصول إلى الهدف الرئيسي: دعونا نعمل.. دعونا ننفلت!!

وعندما يؤكد رئيس جمعية حماية المستهلك في دمشق وريفها عبد العزيز المعقالي بأن (الأسواق تشهد فوضى والأسعار لا تختلف من سوق لآخر أو من حارة لأخرى فقط، بل بين محل وآخر بحيث أصبح من الصعب ضبطها عبر النشرات السعرية ولا عبر دوريات التموين) .. فهذا يؤكد أن التجار حققوا هدفهم بانفلات الأسواق والأسعار ترجمة للنظرية الليبرالية المتوحشة: دعه يعمل ..دعه يمر!

وهاهو مطلبهم يتحقق أخيرا فتعلن وزارة التجارة تخليها عن نشرات الأسعار وتترك للتجار حرية التسعير وتداول الفواتير.

انفلات الأسواق

لا نجادل بأن نظرية (دعه يعمل ..دعه يمر ) صالحة للأسواق الرأسمالية، لكنها مدمرة للبلدان النامية حتى لو تبنت نظام السوق الحر أو النيوبرالية كلبنان وتركيا مثلا!

ويوحي التجار بمطالبتهم برفع القدرة الشرائية للناس وكأنّهم حريصين جدا على تحسين دخل ملايين السوريين، في حين هدفهم الفعلي ضخ المزيد من السيولة في الأسواق لشفطها عبر سياسة “التفلت” وتحويلها إلى دولارات لتهريبها لخارج البلاد وليس لوضعها في المصارف السورية!

ومن المؤسف أن  تروج جمعيات حماية المستهلك لحق (رفع القوة الشرائية للمواطن عبر زيادة الرواتب والأجور)، يراد به باطل (انفلات الأسواق والأسعار)!

نعم (الحكومة شريك أساسي في رفع الأسعار بل هي الأساس في هذا الرفع بحجة الحفاظ على موارد خزينة الدولة)، ولكن على الرغم من التأثير السلبي جداً على القدرة الشرائية للعاملين بأجر نتيجة لهذا الرفع، فإن حصيلته تذهب لخزينة الدولة، في حين حصيلة رفع الأسعار من قبل القطاع الخاص تذهب لخزائن التجار  تمهيدا لتحويلها لدولارات وتهريبها للخارج!

ودون تحقيق مبدأ: “دعونا نعمل.. دعونا ننفلت”، لن  يتمكن التجار من شفط المليارات دون قيود أو شروط، لذا لن يتوقفوا عن الشكوى و“النقّ” حتى تحقيق مطلبهم دون إخضاعهم لأي رقابة فعلية أو حتى شكلية !

لا للربط الالكتروني

وبما أن “الربط الإلكتروني لجباية الضرائب من التجار” يفضح الأرباح الفاحشة التي يشفطونها من الأسواق، فإنهم قالوها للحكومة بصوت عال: لا للربط الإلكتروني!

وذرائع التجار جاهزة دائما كالزعم أن البعض منهم يخسر أحياناً، والبعض الآخر يفكر باعتزال المهنة أو مغادرة البلد، وبالتالي فإن غرف التجارة تضغط منذ أشهر باتجاه تأجيل الربط الإلكتروني لجباية الضرائب من التجار إلى أمد غير منظور، فهم بالمحصلة ضد أي إجراء يضبط العمليات التجارية ويضمن حقوق الدولة!

وحسب رأي غرف التجار فإن التاجر يتحمل الكثير من الكلف غير المنظورة والتي لا يمكنه تضمينها بتكاليف السلع والمواد، وبالتالي سيتعرض للغبن في حال إصرار وزارة المالية على تطبيق الربط الإلكتروني، ولا ندري إن كان التجار سيتمكنون من تأجيل الربط، كما فعلوها سابقا مع الفوترة والأتمتة.

 

إعادة النظر بمنصة المركزي

وآخر مطالب التجار المكرر على مدار الساعة هو (إعادة النظر بآليات عمل منصة البنك المركزي لتمويل المستوردات)، أي المطالبة بالانفلات من أي قيد أو شرط يضبط نشاطهم، والذريعة هي (الحفاظ على ما تبقى من تجار وعلى انسياب السلع الأساسية للأسواق)، وكأنّ التجار يهاجرون لممارسة نشاطهم في دول أخرى تتوفر فيها الفوضى والانفلات؟

ذريعة التجار للتفلت من المنصة (أن التاجر يدفع ثمن البضاعة مرتين الأولى عندما يحجز البضاعة ويثبت سعرها عبر الدفع للشركات الخارجية، والمرة الثانية عندما يدفع للبنك المركزي المبلغ ولا يستطيع سحبه إلا بعد ستة أشهر)!

عنق الزجاجة!

هل فعلا هذه الآلية وضعت التاجر في عنق الزجاجة ولماذا؟، تصوروا أن التجار لا يتحملون بقاء مبلغ من المال مهما كان محدوداً في المصرف لمدة ستة أشهر في حين يحتفظون بمليارات الدولارات في مصارف خارجية كان أبرزها المصارف اللبنانية لعدة سنوات، بل هم يتهافتون على وضع مبلغ مليون دولار في البنوك المصرية بلا فائدة ولمدة 5 سنوات مقابل مصلحة شخصية!

ليس صحيحاً إن التجار سيعزفون عن الاستيراد، فهذا التهديد أجوف فهم لا يجيدون عملا مماثلا يتيح لهم شفط الأموال من الأسواق خلال دورة سريعة ومضمونة!

ومن يهدد بفقدان المواد من الأسواق كأنه يُكذّب ما كشفه عضو في غرفة تجارة دمشق منذ عام بأن التاجر الدمشقي لديه محزون من المواد لخمس سنوات قادمة، وهذا اعتراف بأن التجار يمارسون الاحتكار لضمان الفوضى والتفلت في الأسواق!

وإذا كان البعض يُهوّل بأن التجار يقومون بتخزين البضائع نتيجة عدم استقرار سعر صرف الدولار، فهم المسؤول الرئيسي عن المضاربة لإضعاف الليرة وتحويلها إلى دولار، ولو كان التجار جادون بتقوية الليرة واستقرار سعر الصرف لتمثلوا بإخوانهم التجار السوريين في مصر والإمارات التي يضعون أموالهم في مصارفها ، وبالتالي لوضعوا دولاراتهم في المصارف السورية بدلا من تهريبها للخارج ، وهذا التهريب هو المتسبب بتدهور القدرة الشرائية لملايين السوريين!

 

يرفضون بيع 10% !

وآخر مطالب التجار رفضهم بيع 10% من مستورداتهم للمؤسسة السورية للتجارة  بسعر التكلفة وبهامش ربح 2% ، وهذا الأمر برأي عرفة تجارة دمشق (غير منطقي وفيه إجحاف بحق التاجر، إذ من غير المعقول والمنطقي أن يتم تحديد هامش ربح للتاجر 2 بالمئة على حين أنه قادر على وضع أمواله في البنك ويحصل على فوائد بنسبة 10 بالمئة)!

لاحظوا هذا الإستخفاف بعقولنا: التاجر يُفضّل وضع المال الذي يعادل 10% من مستورداته لمدة سنة في المصرف بفائدة 10 % على أن يحقق ربحا منها بنسبة 2% مقابل بيعها فورا للمؤسسة، وهو بالأساس يحدد كلفها العالية  الوهمية؟

حسناً، إذا كان التجار يقومون بمهمة وطنية جليلة بتأمين السلع والمواد بأصعب الظروف إلى حد وصفهم سابقا من قبل غرفة تجارة دمشق بالجيش الاقتصادي..فلماذا لا يقدّمون الـ 10% من مستورداتهم بسعر التكلفة فقط لصالح أخوتهم المواطنين محدودي الدخل؟

ونحن مع ما قاله عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق ياسر كريم بأن “نسبة 10 بالمئة من المواد الأساسية التي ستحصل عليها (السورية للتجارة) من المستورد تعتبر قليلة ومن الممكن أن يقوم المستورد نفسه بشراء هذه النسبة كاملة وطرحها في السوق بسعر أعلى ولا يستفيد منه المستهلك”، وبالتالي نطلب من وزارة التجارة منعا لقيام أي تاجر بشرائها لاحقا بيعها مع المواد المدعومة للأسر السورية عبر البطاقة الذكية.

الخلاصة:

لن يهدأ بال التجار، ويتوقفوا عن “النقّ” حتى يتحقق مطلبهم النهائي المعلن بوضوح، وهو: (دعونا نعمل.. دعونا ننفلت)، وبالتالي لن يكتفوا بتحرير الأسعار وإنما سيضغطون أكثر فأكثر للتحرر من أي ربط الكتروني مع وزارة المالية، وإلغاء منصة المركزي لتمويل المستوردات، وبحرية تحويل الدولار للخارج، وصولا للترجمة الكاملة لنهج اقتصاد السوق الليبرالي المتوحش: دعه يعمل، دعه يمر، أي الانفلات الكامل بلا قيد أو شرط!!