دراساتصحيفة البعث

“سور” .. عملة مشتركة بين الأرجنتين والبرازيل

ريا خوري 

ما تزال أنظار العالم تتجه نحو حالة الصراع العسكري في أوكرانيا بالدرجة الأولى، متناسين ما يجري من صراع ظاهري وخفيّ بين الشرق والغرب. هذا الصراع تشهده أمريكا اللاتينية، لكن لا تحظى بالقدر الكافي من الاهتمام الإعلامي العالمي.

المتابع لسياق السياسات التي تجري في دول أمريكا اللاتينية، يجد أنّ العديد من الزعماء والرؤساء اليساريين قد وصلوا إلى السلطة، وهم ذوو توجهات يسارية، فقد شهدت الأرجنتين وعاصمتها بيونس آيرس عودة دولة البرازيل إلى تجمّع الكاريبي وأمريكا اللاتينية الذي يضمّ ثلاثاً وثلاثين دولة بحضور لولا دا سيلفا الرئيس البرازيلي الجديد، بعد أن انسحب جاير بولسونارو الرئيس البرازيلي السابق من التجمّع سيراً على نهجه المتساوق مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من الحزب الجمهوري.

وأمام هذا التحول، طرأ تطور ملفت للنظر في القضايا الاقتصادية والمالية، فقد أعلنت الأرجنتين والبرازيل عن إصدار عملة نقدية مشتركة تساهم في حسم التعاملات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، بعيداً عن الحاجة الضرورية لاستخدام الدولار الأمريكي. وكان الخبراء الماليون والاقتصاديون قد اقترحوا اسماً للعملة الجديدة وهو “سور”، وهو اسم بالبرتغالية ويعني الجنوب، حيث ستكون هذه العملة المشتركة في بداية التوافق بين البلدين، بمعنى أنها ليست موحَّدة، وأنّ البلدين سيحتفظان بعملتهما الوطنية الريال والبيزو.

لقد تمت دعوة بقية دول أمريكا اللاتينية للانضمام للعملة المشتركة في سياق تكامل اقتصادي أوسع يتم فيه حسم التبادلات والتعاملات الاقتصادية والمالية بينها بالعملات الوطنية على أساس عملة الجنوب المشتركة دون الحاجة إلى استخدام الدولارات الأمريكية. وهذه النقلة النوعية في تصدير عملة مشتركة تساهم في إفادة الأرجنتين التي تعاني من أزمات اقتصادية.

وبما أن حجم  التبادل التجاري بين البرازيل والأرجنتين وصل العام الماضي إلى نحو ثلاثين مليار دولار أمريكي، فمع العملة المشتركة الجديدة لن تضطر الأرجنتين لاستنزاف احتياطياتها النقدية من الدولار لتمويل وارداتها الاقتصادية من البرازيل.

إنّ أهمية صدور العملة المشتركة بين الأرجنتين والبرازيل، وهي على طريقها لأن تصبح عملة موحَّدة، تعني خطوة أولى مهمّة وكبيرة على طريق ما يمكن أن يطلق عليه “فك الارتباط” بين دول أمريكا اللاتينية، والولايات المتحدة وكندا. وحتى إذا اختارت دولة المكسيك المرتبطة اقتصادياً بشكلٍ كبير بالولايات المتحدة أن تبقى خارج العملة المشتركة، فإن عملة الجنوب ستظل تمثل تحدياً كبيراً لسيطرة الدولار الأمريكي على النظام المالي والاقتصادي والتجاري العالمي منذ سبعينيات القرن الماضي، فإذا كانت دول الاتحاد الأوروبي قد احتاجت إلى أكثر من ثلاثين عاماً للوصول إلى اليورو، فإن وصول أمريكا اللاتينية لصك عملة موحّدة لن يستغرق سنوات طويلة كما جرى في الاتحاد الأوروبي. وفي تلك الحالة ستكون عملة أمريكا الجنوبية ثاني أكبر عملة لتكتل اقتصادي بعد أوروبا، إذ تمثل اقتصادات المنطقة نحو خمسة في المئة من الاقتصاد العالمي.

صحيح أن دول منطقة اليورو تمثل نحو أربعة عشر في المئة من الاقتصاد العالمي، لكن التكتلات الاقتصادية والتجارية والمالية الأخرى التي تستخدم عملة مشتركة في التسويات مثل بعض دول القارة الإفريقية تأتي في الترتيب بعد دول أمريكا اللاتينية بمسافة، وهذا بمجمله يزيد من أهمية الخطوة الجريئة أنها تأتي في وقتٍ حرج جداً بدأت فيه قوى اقتصادية كبيرة عالمية التخلي بشكلٍ أو بآخر عن التعامل في علاقاتها مع الخارج بالدولار الأمريكي لأسباب عديدة ومختلفة.

وخير مثال على ذلك، جمهورية روسيا الاتحادية، التي بدأت بالفعل في التعامل بالعملة المحلية “الروبل”، مع عدد من الدول منها دول عربية معروفة. من جهتها اتجهت الصين إلى القيام بإجراء ترتيبات بين شركائها التجاريين للتعامل باليوان الصيني مقابل عملاتها الوطنية.