مجلة البعث الأسبوعية

فلسطين المحتلة لن تكون ضحية ذنوب العالم

البعث الأسبوعية-هيفاء علي

إذاً هي سلسلة جديدة من سلاسل العنف الوحشي الصهيوني تنصب على الفلسطينيين بدم بارد، وبمباركة الغرب، وما يسمى المجتمع الدولي، مع إفلات تام من العقاب، فقد شن جيش الاحتلال الإسرائيلي غارات جوية على قطاع غزة، بعد ذلك قام شاب فلسطيني بعملية استشهادية قرب كنيس في القدس الشرقية أردى سبعة قتلى إسرائيليين، وجاء كل ذلك بعد تنفيذ سلطات الكيان الاسرائيلي عملية أمنية في مخيم جنين بالضفة الغربية المحتلة كانت الأكثر دموية منذ سنوات خلت.

في 3 آذار 2021 تم فتح تحقيق من قبل محكمة الجنايات الدولية حول الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني. وفي 17 آذار، أرسلت المحكمة خطاباً إلى سلطات الكيان الإسرائيلي يتعلق بالتحقيق بالجرائم الاسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلا أن سلطات الكيان رفضت التعاون، ورفضت الرد على الخطاب. ومنذ ذلك المساء عندما غضب نتنياهو من اتهام “إسرائيل” بارتكاب جرائم حرب، صب جام غضبه الذي ترجم على الشكل التالي: قصفت سلطات الكيان الإسرائيلي، وهدمت المباني التي تضم مكاتب وكالة أسوشيتيد برس في قطاع غزة في هجوم عسكري قتل فيه 243 فلسطينياً، بينهم 67 طفلاً، ما جعل 2021 العام الأكثر دموية للأطفال الفلسطينيين منذ 2014، كما اغتالت قوات الاحتلال الصحفية شيرين أبو عاقله، وهي واحدة من أكثر من 30 صحفياً قتلوا بنيران إسرائيلية منذ عام 2000. بالإضافة إلى ذلك، قضت المحكمة العليا الإسرائيلية بنقل أكثر من 1000 فلسطيني قسرياً إلى الضفة الغربية في انتهاك مباشر للقانون الدولي.  ووسط هذه العناوين -في الروتين اليومي للاحتلال –يواصل الكيان الاسرائيلي قتل الفلسطينيين واعتقالهم وتعذيبهم، بمن فيهم 13 طفلاً قتلوا خلال العام 2022 وحده، وأكثر من بين 400 معتقل، اختُطف معظمهم من أسرهم في منتصف الليل. وفي وقت سابق من نهاية العام الفائت، قتلت القوات الإسرائيلية أربعة فلسطينيين في الضفة الغربية في غضون 24 ساعة، ليرتفع العدد الإجمالي للشهداء الفلسطينيين العام الماضي إلى 62.

واليوم، يواصل الكيان الاسرائيلي استعماره لفلسطين بثقة في الإفلات من العقاب، ومسلحاً بدعم دبلوماسي قوي، ومدعوماً بالتحالفات الإقليمية التي أقامها من خلال ما يسمى بـ “اتفاقيات أبراهام”، واتفاقيات دونالد ترامب للتطبيع، الملوث بشكل محض وبسيط بالفساد. لكن الفلسطينيين، استمروا في المسار القانوني في المحكمة الجنائية الدولية، ووسعوا حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات.

في عام 2021، بعد التعبئة الفلسطينية الدؤوبة، قبلت المنظمات الحقوقية الإسرائيلية والدولية أخيراً ما كان يقوله الفلسطينيون منذ عقود: “إسرائيل تمارس جريمة الفصل العنصري ضد الشعب الفلسطيني”، حيث قامت منظمتا ” وهيومن رايتس ووتش” ومنظمة العفو الدولية بنشر تقارير مفصلة للغاية ومدروسة جيداً، تؤكد بشكل قانوني أن “إسرائيل مذنبة” بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

في أيار من العام الماضي، تغلب الفلسطينيون على التشرذم الاستعماري الذي فرضه الكيان الاسرائيلي، وتم الحشد من النهر إلى البحر، كشعب يحارب نظام فصل عنصري واحد، بعد أن استهدف جنود إسرائيليون حاملي نعش شيرين أبو عقله، مما يثبت لوسائل الإعلام الدولية الطبيعة الشرسة لنظامهم. كان رد سلطات الكيان على التعبئة الفلسطينية المتزايدة، والنجاح الكبير الذي حققته بشق الأنفس في عرض معاناة الشعب الفلسطيني على المسرح العالمي مكثفاً، كما هو متوقع. إلى جانب حملة الاعتقالات الجماعية للأفراد في جميع أنحاء فلسطين في أعقاب انتفاضة الوحدة، وسعّت “إسرائيل” أيضاً من مناوراتها لنزع الشرعية عن المقاومة الفلسطينية، وربطها بالإرهاب.

الاتهام بمعاداة السامية

عندما وافق المقرر الخاص للأمم المتحدة مايكل لينك، في تقريره النهائي الصادر في آذار الماضي، على أن كيان إسرائيل يمارس جريمة الفصل العنصري بحق الشعب الفلسطيني، رد القادة مرة أخرى باتهامات بمعاداة السامية. كما أن النضال من أجل حقوق الفلسطينيين -الذي يستخدم القانون الدولي والمحكمة الجنائية الدولية والأمم المتحدة -معاد للسامية. هذا التكافؤ يصبح أكثر شراً وخبثاً عندما يُلاحظ أن الغالبية العظمى من الحوادث الحقيقية المعادية للسامية يمكن إرجاعها إلى أيديولوجية تفوق البيض. هذا التحريف هو نتاج التآزر بين الأيديولوجية اليمينية والصهيونية، التآزر الواضح في مزاوجة الدعم لإسرائيل بتكتيكات قمعية أكثر من أي وقت مضى، وقد ازدهر هذا الاتجاه في كل الأنظمة الاستبدادية وفي الدول التي يفترض أنها ليبرالية وديمقراطية. ففي المملكة المتحدة، تضغط الحكومة من أجل اعتماد التحالف الدولي لإحياء ذكرى ما يسمى “الهولوكوست” من قبل الجامعات ولتمرير التشريع المناهض للمقاطعة من قبل مجالس المدينة.  في عام 2019، رفض مجلس تاور هامليتس تصريحاً لسباق الدراجات الهوائية لغزة، والذي قال إن هناك “خطراً حقيقياً” من أن الحدث كان معادياً للسامية باستخدام نفس التشريع المناهض للمقاطعة، اذ تشبه هذه السياسة المناهضة للديمقراطية بشكل لافت للنظر الجهود السابقة التي بذلتها الحكومة البريطانية للحد من مقاطعة نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في الثمانينيات. وفي ألمانيا يخضع الفلسطينيون الذين يرتدون الكوفية ويحيون ذكرى النكبة للاستجواب، ويفقدون وظائفهم، ويتم تشويه سمعتهم وحتى تتم مقارنتهم بالنازيين. كل ذلك عندما أصبح حزب البديل النازي الجديد الحقيقي هو حزب البديل من أجل ألمانيا منذ وقت ليس ببعيد أكبر أحزاب المعارضة في البوندستاغ. أما في فرنسا، فإن معاداة الصهيونية تعادل معاداة السامية، حيث تكثف حكومة إيمانويل ماكرون جهودها لقمع غير الفرنسيين، بما في ذلك إصدار قانون يمنح الدولة سلطة السيطرة على المنظمات العربية. على الصعيد العالمي، احتضن الكيان الاسرائيلي وبنشاط تحالفات مع أنظمة مثل نظام فيكتور أوربان في المجر، وجير بولسونارو في البرازيل، والمسيحيين الإنجيليين في الولايات المتحدة، وجميعهم في نفس الوقت يجمعون بين معاداة السامية الدنيئة والنظرة الصهيونية القوية، ويعتبرون “إسرائيل” كنموذج لهم، مع ادعاء الحفاظ على ذكرى الهولوكوست.

هناك ثلاث نقاط عامة ومتشابكة فيما يتعلق بهذه التطورات:

  • أولاً، يجب أن يكون واضحاً للجميع أن الأمر لا يتعلق بمعاداة السامية، وإنما يتعلق بالجغرافيا السياسية، حيث كانت الحكومات اليمينية والمحافظة، التي غالباً ما تكون عنصرية وديماغوجية، حلفاء للكيان الاسرائيلي الذي يستاء أيضاً من النظام الليبرالي الغربي. وعليه، فإن هذا الكيان الغاصب هو دولة استعمارية عنصرية تمكنت في الوقت نفسه من الحفاظ على علاقات دبلوماسية وعسكرية واقتصادية قوية مع الديمقراطيات الغربية الليبرالية. كما أثبت الخلط غير المشروع لمعاداة السامية أيضاً أنه أداة مفيدة للحكومات الغربية التي تسعى إلى تأجيج الحروب الثقافية في سياق سياساتها الداخلية. – ثانياً، لا تقتصر هجمات الكيان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني بأي حال من الأحوال، بل هذه اعتداءات على حرية التعبير والنظام القانوني الدولي والأعراف، وقد خلقت التشريعات المناهضة للمقاطعة ثغرات أصبحت الآن أداة جديدة في ترسانة تشريعات مكافحة الأسلحة النارية، والتشريعات المناهضة للطاقة الخضراء، والتشريعات المناهضة للإجهاض. وبالتالي، فإن الواقع الديماغوجي اليميني هو واقع يمكن لكيان الاسرائيلي أن يزدهر فيه، ويستمر في التمتع بالإفلات من العقاب. إن بيع برنامج التجسس الإسرائيلي “بيغاسوس” على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم ليس مجرد تمرين تجاري، ولكنه ممارسة جيواستراتيجية تمت صياغتها بعناية، ويشبه على وجه التحديد أنواع العلاقات السرية الواسعة التي أقامها الكيان مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي لحماية النظام من توسيع العزلة الدولية.
  • ثالثًا، الأضرار الجانبية الناجمة عن هذا الجهد للحد من حرية التعبير، وتقويض الحركات من أجل الحرية والمساواة، والسماح للديمقراطيات غير الليبرالية والأنظمة الاستبدادية بالازدهار، غالباً ما ينتهي بها الأمر إلى كونها كبش فداء في السعي لتحقيق هذه الأهداف الأكبر. أي إن ادعاءات “إسرائيل” بأن حركة المقاطعة معادية للسامية، أو أن الأمم المتحدة منظمة تشهيرية، تسخر من الجهود المبذولة لمكافحة معاداة السامية الحقيقية، وأشكال أخرى من العنصرية التي تترافق مع كراهية اليهود.

تمت دراسة الروابط بين الذنب الغربي بشأن “الهولوكوست”، ودعم إنشاء “إسرائيل” على نطاق واسع، وكذلك جذور الصهيونية، التي قوبلت بمقاومة شرسة من جانب السكان الأصليين الفلسطينيين في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. الفلسطينيون هم الضحايا غير المباشرين والأضرار الجانبية الناجمة عن معاداة السامية الأوروبية والمسيحية. ونظراً لاعتبارهم من قبل داعمي الكيان الاسرائيلي كائنات دنيا وأشخاصاً غير مهمين لم يكن لهم دور في صنع القرار في الإمبراطوريات والعقول الاستعمارية، فإن محنة الفلسطينيين في مواجهة الصهيونية لم تكن قضية.

بعد قرن من الزمن، فإن تلك القوى الأوروبية نفسها -بما في ذلك ألمانيا، بسبب تاريخها الفظيع -تصدر، ليس معادتها للسامية هذه المرة، ولكن سعيها إلى طلب الغفران والتكفير عن ذنبها على حساب وعلى ظهور الفلسطينيين. وبحثاً عن الحل، اعتبرت دول مثل ألمانيا مرة أخرى الفلسطينيين على أنهم ثانويون، وأن قمعهم واستعمارهم هو ثمن عادل يجب دفعه للسماح لألمانيا بالتكفير عن جرائمها الماضية. يجب على المرء أن يغمض أعينه عندما يتعلق الأمر بمواصلة الفصل العنصري والاستعمار الإسرائيلي، لئلا تتأذى الدولة وتشتعل الصدمات القديمة من جديد. ولتحقيق ذلك، يجب إسكات جميع الأصوات التي تتحدث عن التحرير الفلسطيني أو التي تحتفل بالحياة الفلسطينية، حتى لو كانت هذه الأصوات هي نفسها يهودية. ففي القدس، تم بناء متحف “ياد فاشيم” للمحرقة فعلياً على الأرض المطلة على أنقاض قرية دير ياسين التي ارتكبت فيها القوات الصهيونية مذبحة دموية خلال نكبة عام 1948 لتسهيل طرد الفلسطينيين، والسماح بالاستعمار الصهيوني. بالنسبة للزوار الذين ليسوا على دراية بالواقع، سوف يمشون في متحف مصمم للتثقيف حول “الهولوكوست” إلى منصة المراقبة في نهاية المعرض الدائم، الذي يطل على الحقول الخضراء، دون أن يدركوا أبداً أنهم ينظرون إلى أرضيات ملطخة بالدماء ويسيرون على أرض تشربت دماء شهداء مذبحة دير ياسين.

إن محو الكارثة الفلسطينية في مكان يُذكر فيه “الهولوكوست” هو استخفاف كبير بدروس هذه الإبادة الجماعية، خاصةً أنه لأكثر من قرن من الزمن، حارب وكافح الشعب الفلسطيني الصهيونية العنصرية والاستعمارية، والاستيطانية، التي أعلنت في عام 1948، تاريخ إنشاء الكيان الإسرائيلي الذي كرست نفسه كنظام فصل عنصري، مصمماً على الحفاظ على الهيمنة الصهيونية.

منذ ذلك الحين، يوسع الكيان الاسرائيلي استعماره المستمر للأراضي الفلسطينية، ونزع ملكية الشعب الفلسطيني بلا هوادة، وهي عملية مزدوجة لتوحيد الأراضي والتلفيق الديموغرافي. واليوم، كيان إسرائيل، هو كيان فصل عنصري مع سيطرة كاملة وذات سيادة على كل فلسطين، من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط  يضطهد الشعب الفلسطيني في الداخل وفي المنفى، حيث يحمل كل فلسطيني هذه الحقائق البسيطة في قلبه ويشهد لها يومياً  في كفاحه المتواصل من أجل الحرية، بل سيواصل النضال من أجل التحرر ومن أجل فلسطين حرة ومن أجل عالم يتمتع فيه الجميع بالعدالة والحرية والمساواة.