ثقافةصحيفة البعث

د. محمد ياسين صبيح يبتكر صوراً فريدة في مجموعته الشعرية

ملده شويكاني

“الذين دُفنوا برماد الهزيمة

لم يتلوا دفاتر الركض اليوميّ

بل طاردوا الذباب في مقابر الجحيم

وكتبوا وصايا أصابع حملت

السوط

كمجداف إلى الخديعة”

قصيدة “دفاتر الركض اليوميّ”، إحدى قصائد مجموعة “لا أثر لكفّك على الجدار” للكاتب والشاعر د. محمد ياسين صبيح الصادرة عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب – إلكترونياً، والتي تشدّ القارئ منذ قراءته عناوين القصائد النثرية (سكون الخطوة – أذن الريح – سلم الماء.. وغيرها) إلى تقنيات الكتابة المكثفة بالمضمرات والمبنية على الأنسنة والانزياح بأنواعه الاستدلالي والإيقاعي والأسلوبي، بتبادل الأساليب بين الإنشائية والخبرية، وبرمزية المفردة بتوظيفها بمكان مغاير لمعناها المباشر بغية إدهاش القارئ ودفعه لاستنباط المعنى المراد.

ويبدو واضحاً تأثر الشاعر بكتابته القصة القصيرة جداً من حيث خصائصها، بعيداً عن الشكل، إذ تتالت قصائد مطوّلة كشلال، تناول بعضها جرح سورية بمشهدية تصف الرصاصة والمقابر والشهداء، إلا أن القسم الأكبر من القصائد حمل الكثير من الإنسانيات والوجدانيات التي بتنا نفتقد جزءاً منها في ظل ضباب الحرب الإرهابية وسنوات الحصار.

وثمة مفردات دلّت برمزيتها على روح المدينة والوطن، مثل النهر والماء والنهد والضوء، وكان اللون مكوناً من مكونات القصيدة يوحي بدلالته بالمعنى، إضافة إلى جرأة قد تكون فجة أحياناً وظّفها الشاعر كصور رمزية ضمن سياق القصيدة.

محور واحد

ومن جمالية المجموعة تنوّع الأساليب، ففي قصيدة “الرحمة ضلع قاصر” يتبع أسلوب نقطة الارتكاز لينطلق منها إلى الوحدة المتكاملة ذات المحور الواحد، إذ شرح بالشعر مفهوم مفردة الرحمة وأوجهها من زوايا مختلفة من خلال مقاطع متتالية تتوسطها مفردة الرحمة المتكررة في كلّ مقطع، فيقول:

“الرحمة

طبيب دون يدين

يحاول سحب رصاصة

من رأس الوقت”

وفي مقاطع أخرى رأى أنها سائح يمشي، وأنها الحيرة، وأنها لعبة يرميها الأطفال، ودعاية لمنتوج، ليصل إلى أن الرحمة تختفي ملامحها وتغيب، مختاراً تركيب “أول خصب” برمزية إلى انتهاز أول فرصة لنسيان الرحمة:

“كل الأحرف

وكل الألوان

لم تشفع للرحمة

أن يمحوها المطر

في أول خصب”

وحدات صغرى

بينما في قصيدة “بقايا أسئلة” اعتمد على الوحدة الكبرى التي تضمّ مجموعة وحدات صغرى مختلفة تلتقي مساراتها بمفاهيم إنسانية تشبه النوتة الموسيقية الحاملة أجمل الألحان عبْر شرح مفردات منسابة بين الحب والفرح والموج، وكأنها تتوالى على شكل سؤال وجواب، فيعتمد في شرح الموج على الثعبان الموجود في اليابسة مبتعداً عن الحوت أو أسماك القرش الموجودة في البحر برمزية إلى الإنسان:

“الموج

ثعبان يحميك من الوحدة

يلدغك لتعيش في

حضن الحلم

ثم يأخذك إلى حتفك

أو إلى جحيم

مؤجل”

المدن المنتظرة

ومن القصائد الحزينة قصيدة “الذكرى مسمار في الرأس” التي يرسم فيها معاناة الوحدة، وتتقاطع في زاوية ما مع قصيدة حافة السطر الأول بانتظار المدن البعيدة ربما المحتلة بنداءات تتداخل مع الروح:

“أيتها المدن البعيدة

هل تعيرنني شارعاً

أفرشه خطوات وبيوتاً

ترسم حارة للانتظار على

ابتسامتها..”

إيحاءات منثورة

أما الحب فيستشفّه القارئ كشذى عطر بإيحاءات ممتدة على مدى كثير من الصفحات، منها قصيدة حدائق الماء:

“عندما ينبت الصباح

على وجهك

ندى وأقحواناً…

ارسم فوق حدائق الماء

نوافير من الشوق

وبعض خطوط لنبضي..”

وفي قصيدة “إن عدت فجأةً” تنبيهات من النسيان الذي يؤدي إلى النتيجة ذاتها:

“إن عدت من موتك

لا تنس وجه رصاصتك

فقد تحتاج إلى رسالة

دون زجاجة خالية من

الزفير”

تركيب المخيال الشعري

وفي حديث “البعث” مع د. محمد ياسين صبيح عن صوره الغريبة حيناً، عقب: لا شك بأن الشاعر عندما يكتب، يستلهم مفرداته وأفكاره من خلال تأثره ببيئته وبعلاقته معها، ويقوم بتركيب الصور الجريئة والمبتكرة كزاد له في القصيدة، ولذلك فإن القصيدة تعبّر عن جديد الكاتب، وعن مغايرته لغيره من الشعراء، فالعبرة في حضور الشعر كوسيلة لاختراق الحاضر والماضي والمستقبل في الوقت نفسه، وفي تركيب المخيال الشعري ليبتكر صوره الفريدة والتي لا تشبه الواقع إلا من خلال الهدف والفكرة. وأعدّ هذه المجموعة قصائد نثرية ترسم لوحاتها الملونة بشكل غير مقيد بشكل معيّن، بل تبتكر مخيالها ودروبها التي تسير عليها الكلمات حول الهدف مثل الماء الذي يختار سراديبه.

لوحة بالكلمات

أما عن تركيزه على مفردة وتفسيرها بجمالية شعرية، فأضاف: الشعر روح شفافة ترسم الهموم والقضايا والفرح والحزن والموت وكلّ شيء، لكن بأسلوب شاعري مختلف، لذلك يهدف الشاعر من خلال شعره إلى دمج كلّ ذلك في كلماته الشفافة والرمزية، ويعجنها ليبدع لوحة تسمو بالكلمات وترتقي بالحلم وترنو إلى الحياة من حافة الهاوية، فالمجموعة عبّرت عن الكثير من القضايا التي نعيشها بغية رسم مدى من الأمل والحلم ورمي الكثير من الأحزان في بئر الإصرار والحياة، فالشاعر غالباً لا يجيد التعبير عن هدف قصيدته لأنه يعيشها ويرميها لتنمو زهرة برية تروي عطش الجمال ربما.