ثقافةصحيفة البعث

قراءة في المجموعة القصصية “أنثى الرماد”

هويدا محمد مصطفى

صدر للكاتبة نداء حسين مجموعة قصصية بعنوان “أنثى الرماد”، عن دار الشمعة للطباعة والنشر، وتضمّ بين دفتيها حوالي ٣٢ من القصص الوجدانية والمتنوعة السرد والفكرة وطريقة الطرح الممتزجة برائحة الوطن، والمهداة إلى “أرواح من رماد جعلت صمتنا يتكلم ويبوح بعضها أكلته الأرض وما زال باقياً فينا، وبعضها غائب الجسد ولكنه أزهر في قلوبنا”.

هكذا بدأت الكاتبة بجمالية اللغة والتكثيف واعتماد رؤية خاصة بها لتجسّد بكل زوايا المجموعة مفردات تأخذك لعالم الدهشة والإبداع، فالعنوان وحده “أنثى من رماد” لوحة سردية حية متحركة ترتسم فوق السطور بمدلول يتدرج في التعبير من بنية إلى أخرى، لتقول: أحسّ القدر جاثياً في قبضتي، وأخاف جداً فتح اليد.. ما زالت الحياة أمامي، وما زلت أرقبها من صدع في باب موصد.. العتمة في غرفتي ساكنة كالطحل.. فقط هذا الصدع التعب يخترقه نور ضئيل، ضئيل، ولأن الكون كله في قلبي أمسك بخصلة من شعري.. ألفها على أصبعي وأفكر: كيف السبيل؟”.

يبدو أن التحول المكاني الراسخ في وجدان وقلب الرؤيا له طعم مميز متفرد لا يظهر فيه أثر للزمن، فالتقاط الجمال ورؤيته والاستمتاع به هو الأهم، ولم يعد ممكناً تصوير والتقاط الحالة والاكتفاء بها بقدر ما أصبح من المهمّ التعامل مع الخطاب في ضوء إمكانية التشكل والخلق الفني والدفق الشعوري المرتبط بالآخر، فيظل العنوان يكشف طوال الوقت هذه الأعماق الدلالية، ويقدم مشهداً فلسفياً تأملياً بذائقة جمالية، لتنقلنا الكاتبة إلى قضية اجتماعية بعنوان “الزواج المبكر”: “وضعت أحمر الشفاه.. ثم نظرت إلى نفسها دارت دورتين فاستدار الفستان معها: آه ما أجملني.. قالت. كانت تطير فرحاً.. ركضت باتجاه أبيها الواقف عند الباب.. ضمّته ونظرت في وجهه.. عينان فرحتان… لكن شفتاه ترتجفان.. إنها تقرأ لغة العيون بكل ذكاء: ما بك أبي… قال: ستتزوجين”.

لقد وظفت الكاتبة الأحداث بأسلوب سلس وكأنه أجزاء من مقطع موسيقي، وهذا يعطيها إضافات جديدة في تصوير الواقع، وقد استطاعت ذلك بقصصها المتنوعة التي تضم إسقاطات رمزية على الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الذي نعيشه وعلى الحرب، حيث عالجت الكثير من القضايا الاجتماعية بجرأة عالية من خلال منظور أدبي، فبرعت في تحريك شخوصها بمرونة فائقة في جميع القصص ما أضفى فيضاً من الحيوية والدهشة.

وفي “ولادة الموت”، تقول الكاتبة: “هل أنا أحتضر الآن؟ لم يتبق لي من الأمل سوى اسمي، أمل، ورأس طفلة اخترق ألم الموت فتحرر إلى حياة جديدة”، وتأخذك الكاتبة لدفقة شعورية مغامرة لتحيل الفرح المباغت إلى حزن يحتمه الفقدان ويبقى الانتظار متفرداً كالصراع الخفي والداخلي، فنجد الكاتبة حولت قصصها إلى حالة شعرية فلسفية، وهي تدلّ على مهارة التمكن والإبحار على أبعاد الزمن، فتنقلنا من زمن الحلم إلى زمن الرغبات الحسية التي تنتمي لعالم الواقع مع مساحة شاسعة من الخيال، فقد أضافت بفكرها والتقاطها للصورة الواقعية تشريحاً كلياً لواقع ممتدة فيه فلسفة الألم بأزمنة الفوضى الضائعة بتراتبية زمنية وبإيفاء وجداني مؤثر، فهي ترسم شهقة الوجع تظلله أوراق الأنا المزكومة بالشرود. وفي “حفنة تراب” تقول: “طار الغني فوق الغيوم.. أراد ملامسة النجوم وعاش الفقير على هامش الحياة وراء تلال من سراب الأمل بالوجود في عالم سحق منه كل أحلامه ومواهبه، وهناك في الفراغ نفسه الذي لعبا فيه للمرة الأولى وفي المكان عينه، وقف الأخ المسحوق، أخرج من جيبه حفنة التراب القديمة، وألقاها فوق القبر الحائر، قائلاً: ها هي الأمانة ترد لأصحابها يا أخي”.

الكاتبة تطرح أسئلة أنطولوجية عن قضايا تؤرقها وتغوص عميقاً في فكرها فكل ما حولها من الوجود والإنسان والشوق والغياب هو أنين النفس وتساؤل الروح الحائرة، فقد استطاعت، بأسلوب فني يتميز بالتكثيف والاختزال، اقتناص اللحظة الزمنية بلغة أقرب للشاعرية، فالكلمات تلملم شظايا المكان وذلك لأن للغة القدرة على تشكيل التجليات وتوسيع دائرة احتمالات المعاني بدلالات ورسائل مشفرة تحمل خصوصية الأداء الفني المميز وضروراته المقنعة للقارئ كفكرة، لتضيف أبعاداً أعمق على شكل لوحات سردية فنية قريبة من الواقعية. وفي “رحلة على الأكتاف”، تقول: “لم أسمع صوتك إلا عند تقديم أعذار نقص مالي، فلماذا تدفعين أجرة بناء قبري الآن؟ ألأنك بين المتباهين بمكانتهم الاجتماعية من أمثالك؟”.

الكاتبة نداء حسين قدمت خلال مجموعتها القصصية “أنثى الرماد” لغة مثقلة قوية وتكثيفاً للمعاني بطريقة سيكولوجية، وقد تفنّنت في إحداث المفاجأة المقنعة والإدهاش الموظف الذي جاء على صيغة السؤال المعلق على جدار السردية. وبعد هذه الجولة بين تخوم المجموعة القصصية نلمس أن هناك رسالة لا تقف عند التبليغ، بل تتجاوزها إلى الإبهار من خلال ما نسجته من مفردات تستحق القراءة.