تحقيقاتصحيفة البعث

“أنقاض الخوف” لا تزال تتملك الناجين من الكارثة.. ترميم التشوهات النفسية تتصدر أولويات المعالجة

قرابة أسبوعين مضت على كارثة الزلزال ولا زالت “حلا” ابنة السبع سنوات غير قادرة على النوم بهدوء الليالي السابقة للكارثة، والتي قلبت حياتها مع أسرتها رأساً على عقب، فعلى الرغم من نجاة العائلة من الزلزال بسلام وسكنهم في منزل أقاربهم مؤقتاً، إلّا أن كابوس الهروب وانهيار المنزل لم يفارق الطفلة إلى الآن، ليصبح النوم همّاً ثقيلاً على أجفانها وأجفان الكثير من الصغار وحتى الكبار الناجين من تلك الكارثة، فلم يكد السوريون ينتهون من تضميد جراح الحرب التي تركت خلفها ندبة في كلّ منزل سوري، حتى فوجئوا بكارثة الزلزال وما خلّفه أيضاً من دمار للمسكن وفقدان للأهل والأقارب وهجرة داخلية مؤقتة إلى منازل الأقارب أو إلى المأوى الذي جهزته الدولة كبديل مؤقت لهم.

شرخ نفسي

قصص موجعة ومآسٍ محزنة نسمعها يومياً من أبطالها الحقيقيين الذين تمنّى الكثير منهم الموت على النجاة المؤلمة بفقدان أحد أفراد أسرته ببضع ثوان، فلا زال الكثير من الأهالي الناجين يروون أحداث الكارثة وكأنها تُصّور أمام أعينهم الآن، إذ لم تفارق هذه اللحظات أصحابها لا في النهار ولا حتى في أحلامهم، ولاسيّما أن جرح الحرب لم يلتئم بعد، ولم تستطع الورشات والندوات والحوارات والمقالات ترميم الشرخ النفسي الحاصل مسبقاً والمُلتهب حديثاً، فقسوة المعاناة اليوم تحتاج لمعونات نفسية أكثر منها مادية وغذائية، ولاسيّما عند الأطفال ممن فقدوا أهاليهم أمام أعينهم، وبالتالي سيبقى مشهد الفراق راسخاً في ذاكرة وأدمغة هؤلاء الأطفال لا يمكن محوه ولا تجاوزه إلّا بالدعم النفسي المتخصّص.

ردود أفعال

وزارة الصحة استنفرت كباقي الوزارات منذ اليوم الأول واضعة مراكزها ومشافيها وطاقمها الطبي في خدمة الناجين من الكارثة، ناهيك عن خدمات الإسعاف النفسي التي قدّمتها الفرق التابعة لمديرية الصحة النفسية، وفق ما تحدثت عنه أمل شكو مديرة مديرية الصحة النفسية في الوزارة، لافتة إلى أن الكارثة أثرت على الأفراد والأسر، وأدّت إلى فقدان البعض بيوتهم أو أحبائهم، ورغم أن حدثاً كهذا يؤثر على جميع الأفراد بطريقة أو بأخرى، إلا أن لكلّ فرد نطاقاً واسعاً من ردود الأفعال والمشاعر التي قد تصدر عنه -برأي شكو- فقد يشعر الكثير من الناس بالارتباك أو الحيرة حيال ما يحدث، وقد يشعرون بالخوف الشديد أو القلق أو بحالة من الانعزال، وفي حالات أخرى قد يظهر البعض ردود فعل أشدّ من هذا وتلك، وذلك يعتمد على عدة عوامل أهمها، طبيعة ومدى شدة الأحداث التي اختبروها، وتجربتهم مع أحداث أليمة سابقة، والدعم الذي يحصلون عليه في حياتهم من الآخرين، إضافة إلى صحتهم الجسدية وخلفيتهم الثقافية وأعمارهم، فمثلاً يظهر الأطفال ردود فعل مختلفة في مراحل عمرية مختلفة.

ورشات عمل

مديرة الصحة النفسية تحدثت عن اضطراب الشدة ما بعد الرض، والذي يعتبر من الاضطرابات المرتبطة بالصدمات والضغوط ويتميّز بأعراض خاصة تشمل إعادة المعايشة للحدث الصادم، والاستغراق في ذلك لدرجة تجعله منعزلاً عن العالم من حوله وغير مستجيب له، مع فقد الشعور بالألفة وزيادة الحذر واضطراب النوم والشعور بالذنب تجاه نجاته من الحادث، ولاسيّما إذا هلك من معه، إضافة إلى إصابته بخلل بالذاكرة ونقص الانتباه والتركيز مع تجنّب النشاطات التي تذكّره بالحادث، وهنا يجب أن يعالج علاجاً دوائياً ونفسياً.

وعن دور المديرية خلال الكارثة، نوّهت شكو بتدريب المديرية مُسبقاً لكوادر طبّية وصحية على برامج متعدّدة، منها برنامج رأب الفجوة وبرنامج الإسعاف النفسي الأولي، وبرنامج المعالجة المطورة للمشكلات وبرنامج رأب الفجوة المجتمعية، كما قمنا حالياً بتشكيل فرق في المحافظات المتضررة بحيث تتشكل كل فرقة من سبعة أـشخاص مدرّبين على البرامج المذكورة لتقديم خدمات الإسعاف النفسي الأولي، وكشف الاضطرابات النفسية في حال وجودها وتدبيرها أو تحويلها لعيادة صحة نفسية تخصصيّة في حال الحاجة، كما سيتمّ تنفيذ ورشات عمل بالتعاون مع مديرية الإسعاف والطوارئ لتقديم دعم نفسي اجتماعي لمقدّمي الخدمة في فرق الطوارئ، وستتمّ هذه التدريبات بالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية.

دورات مجانية

ولم يقتصر الدعم النفسي على وزارة الصحة، فقد تنبّهت أغلب الوزارات والكثير من الجمعيات لأهمية الدعم النفسي وعلاج صدمة الفقد للأطفال والكبار والعودة بشكل تدريجي لحياتهم الاعتيادية، لنشهد خلال الأسبوع الماضي الكثير من الأنشطة الترفيهية في مراكز الإيواء بإشراف فرق الدعم النفسي التابعة لجمعيات متعدّدة، هدفها كسر جليد الصدمة وتعارف الأطفال على بعضهم في المراكز، إضافة إلى إقامة ورشات مجانية للكثير من الشباب غير المتضررين من كارثة الزلزال والراغبين بتقديم دعم نفسي للناجين من الكارثة بإشراف مدرّبين مختصين، حيث تحدث لنا المدرّب النفسي سامر التمر عن أهمية هذه الدورات التي تقام أغلبها تحت إشراف جمعيات ريثما تنتهي الوزارات من مهامها الأساسية في إيواء المتضررين، وتقديم العلاج الجسدي والمعونات الغذائية والدوائية، وتبدأ بعدها بإعادة المتضررين لحياتهم الطبيعية، لذا قمنا بتولي مهمة الدعم النفسي مؤقتاً وتقديم معلوماتنا بشكل مجاني للراغبين بتقديم هذه الخدمات، كون الحاجة اليوم كبيرة لأعداد كبيرة أيضاً من المختصين، ولاسيّما مع وجود الكثير من الأطفال الخارجين من هذه الكارثة بذاكرة سوداء بحاجة لترميم وحذف ما تعرّضوا له من شريط ذاكرتهم قدر المستطاع. ولفت التمر إلى إقبال عدد لا يُستهان به من الشباب إلى هذه الدورات، موضحاً أهمية الدعم النفسي الأولي الذي قدّمه المنقذون والمسعفون خلال العشرة أيام الأولى، وعند وصول الناجين إلى مكان آمن يبدأ دورنا، خاصّة وأن الشخص يحتاج لأكثر من ثلاثة أيام للاستفاقة من هول الصدمة، أما الدعم النفسي المتخصّص فيبدأ بعد أكثر من عشرة أيام من النجاة.

موت بطيء

ولم يخفِ المدرّب النفسي وجود الكثير من الأطفال الفاقدين إلى اليوم القدرة على النوم مع فقدان الشهية والبكاء بصورة عشوائية، وهنا تبدأ مهمة الداعم النفسي في مساعدة الطفل لتخطي هذه الصعوبات، وهذا الأمر يحتاج بحسب سهل الضامن “طبيب نفسي” لأوقات مختلفة حسب حالة الطفل وهول الصدمة التي تعرّض لها، فالتجاوز المبدئي للصدمة لا يستغرق أكثر من أسبوعين، أما اضطرابات ما بعد الصدمة فيحتاج علاجها عند بعض الأطفال إلى عامين، وفي أغلب الأحيان تزول الصدمة مع مرور الوقت بعد العلاج، أما في حال لم تتمّ معالجة الأطفال الناجين بسرعة سيدخل الطفل بمرحلة من الاضطرابات العصبية المستمرة والمتصاعدة مع العمر لتكون أقسى من الموت الحقيقي، ولاسيّما في حال تعرض الطفل لحدث مشابه لما تعرّض له في السابق، سيقع في حالة تُسمّى “اجترار الذكريات السيئة” وسيكون وقعها أصعب من الصدمة الأولى بكثير.

لنا كلمة..

لا شكّ أن هول وصدمة كارثة الزلزال كانت كبيرة على قلوب الكبار كما الصغار، ولا شكّ أن السوريين في جميع أنحاء العالم قدموا ما استطاعوا من معونات مادية للناجين من الكارثة، عدا عن جهود الدولة التي وصلت الليل بالنهار كي تسعف المواطنين وتؤمن مأوى مؤقتاً لهم، وعن إسراعها في وضع خطط لتأمين مساكن مسبقة الصنع لمن فقد مسكنه، إلّا أننا رغم جميع هذه الجهود لا زلنا بحاجة أكبر للدعم النفسي للناجين الذين لا زالوا يصارعون الموت البطيء ورفض الواقع المتمثل “بالفقد”، فالقصة لم تعد مقتصرة على المأوى والطعام واللباس بقدر ما هي الحاجة الأكبر للتأهيل النفسي بكوادر مدرّبة  لتقبّل الواقع ومعالجة التشوهات النفسية عند السوريين الناجين من كارثتي الحرب والزلزال.

ميس بركات