مجلة البعث الأسبوعية

ما بعد الزلزال.. كيف يمكن للضحية إعادة بناء نفسها.. وماذا يتعين علينا أن نفعل بعد الصدمة؟

“البعث الأسبوعية” ــ لينا عدره

خلال حياتنا، يمكن لن أن نجد أنفسنا فجأة في مواجهة مواقف تجعلنا نشعر بالعجز والهشاشة، مما يثير الخوف والشعور بعدم الأمان والقلق، وهذا ما حدث مع الزلزال الذي ضرب سورية وتركيا وموجة الهزات الارتدادية اليومية التي يصعب عدها أو احصاؤها أو توقعها. وهذه المظاهر يمكن أن تحدث معاناة كبيرة، وتتسبب بما نسميه إجهاد ما بعد الصدمة، ويمكن أن يكون إجهاداً مزمناً إن لم يتم علاجه منذ البداية.

وهذا ما نراه يومياً، فقد تغير شيء ما منذ السادس من شباط الحالي، حيث يجد الكثير من الناس صعوبة في التركيز وتنظيم يوم عملهم وأنشطتهم الشخصية، ويعيش البعض في حالة ذعر من هزة ارتدادية جديدة. وقد لوحظت ردود فعل عدوانية لدى أشخاص غير عدوانيين، وتغيرت العلاقات مع الآخرين في بعض الأحيان، وظهرت مشاكل الأرق، وأصبح موضوع الزلزال بالنسبة للبعض هو الموضوع الأثير الوحيد.. ولدى الكثيرين ميل للتحدث فقط عن الهزات والظروف المحيطة بها (ربما كوسيلة لطردها).

إنه الرعب، فعندما تعتقد أنك آمن تماماً، في منزلك، في سريرك، وفجأة ينهار كل شيء بالمعنى الحرفي والمجازي، فهو أمر رهيب للغاية. وفي مثل هذه الحالات، تعمل الذاكرة على قنوات مختلفة، وهي تحتفظ بذكرى الصور، وأيضاً الأحاسيس التي مررنا بها، والعواطف التي شعرنا بها خلال الكارثة، وهي أحاسيس ومشاعر تعود للظهور بشكل متكرر، ودون وعي، مع أدنى إشارة للحدث الصادم. وعلى سبيل المثال، بمجرد مرور سيارة إسعاف في الشارع، ستنطلق حالة الاستنفار العامة في الجسد، وسيعاني الضحايا من كوابيس كثيرة، وسيصاب البعض بنوبات قلق صدماتية.

 

التضامن والتعبير عن القرب والتجاور

عادة ما تجعلنا الأحداث الصعبة والقوية والاستثنائية نشعر بضعفنا، فهي تكسر تطلعاتنا إلى الأمن وتستفزنا بشكل أعمق معاناتنا وخوفنا وقلقنا وغير ذلك من المشاكل النفسية و / أو الفيزيولوجية. وإذا لم تكن هذه المواقف شديدة للغاية، أو إذا كانت قصيرة المدة، فيمكن للمرء التغلب على العواقب في وقت قصير نسبياً.

رغم ذلك، ليست هناك وصفة جاهزة لتجاوز آثار الكارثة، وخلال الأيام الأولى التي تعقب الزلزال، فإن الإجراء الذي سيسمح لك بالتغلب على القلق يتمثل في في مواجهة الاحتياجات الأساسية للبشر، أي ضمان بقائهم على قيد الحياة، وليس هناك وقت للتفكير بغير ذلك، وعندها فقط سنحتاج إلى الدعم. وهنا فإن من المهم الإشارة إلى الحاجة الماسة للتضامن الجماعي، خاصة في أوقات الكوارث الطبيعية، وحتى ولو كان الطرف المصاب غير محتاج، وحتى لو كان خصماً سابقاً.. لماذا؟ لأننا بحاجة للتعبير عن القرب والتجاور والأخوة.. ونحن نريد تقديم المساعدة والشعور بوحدة المصاب والمصير المشترك. ومن خلال منح هذا الشعور بالتضامن، يشعرون بالفعل أنهم أشد قوة.

أخيراً، فإن إظهار التضامن في التعامل مع الصدمة سوف يجعلنا مفيدين في مجتمعنا، فلنقم بجمع التبرعات، ولنمنح وقتنا للآخرين، وسوف نشعر بالرضا الكبير، والشعور بالإنجاز الذي سيملأ كل فراغات حياتنا.

 

ما هي أعراض الصدمة النفسية؟

الصدمة النفسية هي حدث صادم أو عنيف يتسبب في إصابات أو ضرر للضحية، وهو أيضاً ذو طبيعة نفسية. إنها صدمة وحشية وغير متوقعة، تسبب عبئاً عاطفياً لا يمكن السيطرة عليه، ويتجاوز موارد الضحية.

وفي الواقع، تختلف ردود أفعال كل فرد في مواجهة الصدمة. فعلى الفور، أي بعد الحدث الصادم مباشرة، قد تشعر الضحية بالذهول. وقد تتجاوز الرهبة الناتجة مجرد الخوف، وقد تؤدي إلى شلل كامل، على الأقل مؤقتاً. وقد لا تستطيع الضحية الكلام أو التحرك أو حتى أن ترمش. وقد تفقد وعيها أيضاً.

في بعض الحالات، يكون هناك فقدان جزئي للذاكرة، وهي آلية دفاعية للدماغ لحماية نفسه من عنف الصدمة. ولهذا السبب في بعض الأحيان لا يستطيع الأشخاص الذين يقعون ضحايا كارثة أو اعتداء خطير أن يتذكروا الوقائع. بالنسبة لآخرين، تسبب الصدمة النفسية تبدد الشخصية. وتشعر الضحية بالارتباك والشعور بأنها خارج الجسد. وفجأة، تجد نفسها في نوع من البعد الموازي، ولديها انطباع بأنها لا تعيش في الواقع.

كل هذه المظاهر هي آليات بقاء يطلقها الدماغ لحماية نفسه. وسرعان ما يعقب هذه المرحلة الأولى من التداعيات الفورية ردود أفعال أكثر وحشية. وتدرك الضحية أخيراً خطورة أو خطورة الموقف. ثم يتبع ذلك الانفعالات ونوبات الهستيريا والصراخ والأوهام الذهانية والارتباك وانفلاتات الذعر، وما إلى ذلك.

ويمكن أن يكون الإجهاد اللاحق للصدمة حاداً، وهو الذي يظهر على الفور تقريباً بعد الحدث ويستمر حوالي شهرين، ويمكن أيضاً أن يكون مزمناً، وبالتالي، مع أعراض مماثلة، تزيد مدته عن شهرين ويسبب معاناة دائمة.

 

أعراض قد تكون دائمة

بعد ذلك بوقت طويل، تُلاحظ الأعراض لدى الضحية، والتي يمكن أن تبقى دائمة وترافقه لبقية حياته في غياب العلاج المناسب. وتشمل هذه الأعراض المتأخرة الانفصال العاطفي الذي يمكن أن يؤدي إلى فقدان التعاطف في الحالات الشديدة، والذكريات المتكررة المتطفلة التي تظهر في أي وقت من النهار أو الليل (كوابيس)، وأخيراً، التجنب الاجتماعي أو العزلة، واضطرابات النوم، والقلق، والإدمان على الكحول، واضطرابات الأكل.. إلخ.

أما عند الأطفال، فقد يكون السلوك غير المنظم أو المهتاج بديلاً عن هذه المظاهر، حيث يتم إحياء الحدث الصادم باستمرار من خلال ذكريات متكررة ومتطفلة عن الحدث، وتكرار الأحلام بالحدث، وأحلام مخيفة بدون مضمون واضح، واللعب المتكرر على مواضيع الصدمة، والشعور أو التصرف بشكل مفاجئ “كما لو” أن الحدث سيحدث مرة أخرى، بما في ذلك الهلوسة، بـ “ذكريات الماضي”، والشعور الشديد بالضيق النفسي.

 

من هم الأكثر عرضة لضغط ما بعد الصدمة؟

الأكثر عرضة لضغوط ما بعد الصدمة هم عادة الأشخاص الذين عانوا من حالات انعدام الثقة العقلية أو الجسدية بالنفس خلال حياتهم، أو أولئك الذين لديهم سمات شخصية اكتئابية أو يميلون إلى رؤية الجانب السلبي للأشياء، والذين عانوا مراراً وتكراراً من المواقف العصيبة، أو الأشخاص الأكثر عرضة للقلق لأسباب مختلفة.

 

ماذا يتعين علينا أن نفعل؟

علينا أولاً أن نكون واعين ونساعد من يعانون من الصدمة على إدراكها. ويمكن لنا إنشاء شبكة من العائلة و / أو من الأصدقاء الذين يمكن التعاون معهم للتحدث أو الخروج أو قضاء وقت مشترك، وخلق مواقف آمنة.

في جميع الحالات تقريباً، قد يكون من الضروري استشارة معالج نفسي، إذ سيساعد ذلك على تحليل الموقف وفهمه والتغلب عليه بشكل أفضل، علاوة على أنه سيسمح أيضاً بمعرفة الأسباب الكامنة – إن كانت موجودة – المتعلقة بالشخصية، والتي شكلت أرضية مواتية لظهور ضغوط ما بعد الصدمة. ويعتبر العلاج النفسي أمراً أساسياً، ونتائجه إيجابية للغاية على المدى القصير (حوالي ثلاثة أشهر) في معظم الحالات.

 

كيف نعيد بناء أنفسنا بعد الصدمة؟

يعيش الكثير من الناس اليوم بثقل وذكريات مؤلمة للصدمة النفسية. لسوء الحظ، في هذا النوع من المواقف، من الصعب جداً معرفة كيف يتفاعل العقل، وهذا ما يفسر المشاكل النفسية مثل الاكتئاب واضطرابات القلق وغيرها الكثير، والتي ترافقك أحياناً حتى نهاية حياتك.

وإذا كنت تواجه مثل هذه المشكلة حالياً، أنت أو أحد أفراد أسرتك، فإن عليك أن تعلم أن من الممكن إعادة بناء نفسك عاطفياً. وما عليك إلا أن ترغب بذلك، وأن تكون عازماً بما يكفي لتحقيقه.

فما هي إعادة البناء النفسية، وكيف نمضي فيها، وماذا سنحتاج؟

علينا أولاً التجنب المستمر للمحفزات المرتبطة بالصدمة ونقص النشاط العام (بالنسبة إلى نشاط ما قبل الحدث)، وأن نبذل جهوداً لتجنب الأفكار أو المشاعر أو المحادثات المتعلقة بالصدمة، أو تذكر جانب مهم من الصدمة، وأن نسعى لتقييد التأثيرات (على سبيل المثال عدم القدرة على الشعور بالحنان، والمشاعر الاكتئابية لمستقبل “مسدود”)، ومقاومة الأعراض التي تظهر التنشيط العصبي.

 

متى يجب أن تستشير أو تبدأ في إعادة البناء؟

من المهم أن نعرف أنه عندما يترك الماضي بصمته فوق أجسادنا وأرواحنا، فإن العواقب التي تنجم عنه يمكن أن تدمر حياتنا. إنها تؤدي إلى مشاكل نفسية أخرى أكثر خطورة، وتغرقنا في حلقة جهنمية لا نهاية لها. وفي سبيل كسر هذه الحلقة المفرغة والخروج من هذا الموقف، يجب استشارة مختص في الطب النفسي بأسرع ما يمكن. وعلينا أن نعلم أنه كلما طال انتظارنا، ازدادت سيطرة الاضطرابات النفسية الناجمة عن الصدمة. لذلك، من الأيام الأولى التي أعقبت الحدث الصادم الذي قلب حياتك رأساً على عقب، يجب أن تبدأ العلاج الترميمي. سيساعدك هذا أولاً على فهم العنف النفسي الذي تعاني منه. ثم، مع مرور الأيام، تبدأ الضحية بالتدريج في التغلب على معاناتها وإيجاد معنى لحياتها مرة أخرى.

 

علاجات مختلفة: الكتابة والرسم والأداء والتضامن …

يمكن أيضاً استخدام أنواع أخرى من العلاجات لعلاج أعراض الصدمة النفسية. على سبيل المثال، الكتابة أو الرسم. يتيح لك وضع ما مررت به، أو اختبرته، على الورق الدخول في أدق التفاصيل، لإعطاء نفسك بشكل كامل وبالتالي التخلص من أعباء نفسك. يمكنك أيضاً اختيار أنشطة مثل المسرح، والتي تدفعك لتولي أدوار جديدة وتغيير شخصيتك والابتعاد عن الواقع القاسي في حياتك. إنه منفذ فعال للغاية، لأنك في النهاية ستشعر بثقل أقل في معاناتك.

صحيح أن التحدث عما تمر به الضحية بالفعل يسمح لها بالتعبير عن مشاعرها والتواصل مع الآخرين بحيث يغادرها الشعور بالوحدة، مع ذلك، فليس ذلك قاعدة عامة، فبعض الضحايا لا يستطيعون التعبير عن أي شيء بعد هذه المأساة، وسوف يستغرق ذلك منهم الكثير من الوقت.

 

العلاج الجماعي

وهناك علاجات جماعية يمكن أن تتخذ هيئة النشاط البدني. وتعتمد الرياضة على أذواق الجميع، لأنها يجب أن تكون أيضاً مصدراً للرضا (في نفس الوقت مع التعافي الجسدي والعقلي). وإذا كانت نشاطاً في الهواء الطلق، فهي مفيدة مثل اليوغا أو الرقص.

كما يمكننا قدر الإمكان مواصلة أنشطتنا اليومية من خلال المواظبة على العمل، ومحاولة الدراسة، والقيام بالأعمال المنزلية، حتى لو كنا نشعر بالقلق أثناء القيام بها.

 

على طريق المرونة.. أعد بناء نفسك خطوة بخطوة

المرونة هي بلا شك ما سوف يساعدك، بخلاف العلاجات، على المضي قدماً وإعطاء معنى لحياتك مرة أخرى. والمرونة هي قدرة استثنائية يظهرها بعض الأشخاص بشكل طبيعي. ويلاحظ بشكل خاص عند الأطفال، الذين تمكنوا رغم كل الصعاب من التغلب على المواقف الصعبة مثل فقدان والديهم، والاعتداء الجنسي، وما إلى ذلك. إنها قدرة غير عادية، تسمح لنا بالانتصار، حتى عندما تفرض الحياة علينا أسوأ المعاناة. بغض النظر عن عدد حالات السقوط، يجد الشخص المرن دائماً طريقة للوقوف من جديد ولا يفقد أبداً فرحته في العيش.

 

زمن العلاج

قد يستغرق التعافي من الصدمة سنوات. إنها عملية معقدة من المهم عدم التسرع فيها، ويجب أن نوافق فيها على إعطاء أجسامنا وعقولنا الوقت الذي تحتاجه للشفاء. ولن يكون العلاج نهراً طويلاً هادئاً، لأن الانتكاسات كثيرة في هذا النوع من المواقف. وعندما نكون ضحية مباشرة لزلزال، لن يعود أي شيء إلى ما كان عليه مرة أخرى، وسيكون علينا أن نتعلم كيفية إدارة مخاوفنا، والاحتماء من الخطر المتخيل والمتوهم. ومع ذلك، إذا كنت تستطيع الاستمرار في التركيز على هدفك، مع الإرادة للخروج منه بأي ثمن، يمكنك الوصول إلى هناك.

يجب أن نعلم أيضاً أنه في هذا النوع من المواقف، يعيد كل شخص بناء نفسه وفقاً لسرعته الخاصة. لذلك من المستحيل معرفة المدة التي قد يستمر فيها العلاج. وأهم شيء هو التأكد من أنه يعطيك نتائج حقيقية. وهذه النتائج تظهر منذ الأيام الأولى. وتسمح لك كل خطوة بالتقدم تدريجياً نحو الراحة والاسترخاء، مما يؤثر على صحتك الجسدية والعقلية، وعلاقاتك بالآخرين. وستكون قادراً على التخلص من كل الأعراض المرتبطة بتلك الصدمة التي قد تدمر حياتك.

مهما كان سبب الصدمة، فإن من الممكن تماماً إعادة البناء برفق. وستتمكن من تسلق المنحدر تدريجياً حتى نقطة الشفاء التام. لذلك من الممكن إعادة البناء النفسي بعد الإساءة، أو بعد الإذلال، أو حتى إعادة بناء نفسه عندما يفقد المرء كل شيء، أو بعد الكارثة او الزلزال.. والخطوة الأولى هي الرغبة، وسيعتمد الباقي على فعالية التقنيات المستخدمة والعزيمة التي ستظهرها للوصول إلى هناك.

عملياً، يحتاج البشر إلى حد أدنى من الاستقرار والأمن حتى يتمكنوا من التركيز نحو المستقبل، وفي غياب ذلك، يصبح كل شيء غير مؤكد أو غير قابل للتحقيق.

والظروف العنيفة، حتى لو كانت نادرة، هي، بطريقة معينة، جزء من الحياة نفسها، طالما أنه لا أحد ولا شيء يستطيع أن يؤكد لنا الهدوء الدائم، أو غياب الوقائع التي تتجاوز قدرتنا على الاستجابة أو التكيف.