Uncategorizedالصفحة الاخيرةصحيفة البعث

حواة.. حوارة!

حسن حميد 

ها أنذا، أمام بابك، يا حوارة، أقف حاني الرأس والقامة والفؤاد، آتيك لأعرف معنى الجلال الوطني، ولأشمّ العطر الوطني من هذا التراب البارق مثل عناقيد الدوالي.

ها أنذا في الباب، قرب العتبة تماماً، أرى الدم الذي سفكوه، فهم لا يعرفون طُهره، ولا زكاوته، ولا خصوبته التي تنبت آلاف الأرواح كلّما مرّ بها الهواء الرهو، ولا يعرفون جنونه الوطني الذي يجعل كلّ حجر شجرة، وكلّ يابس مطراً عميماً، وكلّ صمت نداءاتٍ جرّحها الصّبر الطويل.

ها أنذا هنا، قرب البيوت التي أحرقوها، وقرب البيوت التي هدموها، وقرب السكينة التي جعلوها طواحين للألم والخوف، وقرب عزيمة السواعد الشدود التي اعتفرت أسوداً لتقابل ظلموتاً جديداً، شديد السواد، شديد الغطرسة.

أنا هنا قرب هذا السور الذي يلفّك يا حوارة، سور الكبرياء العالي، وقرب عراقة هذه النخوة الآبدة!.

أنا هنا، في القرية المجد، في القرية الناس والكتاب، في القرية التي اغتسلت بالدم مكرهةً، وقد اجتاحها الرصاص، والبطش، وأحاط بها الأذى، ولفّتها صرخات عمياء لجنود عميان، وتصارخت في جنباتها سيارات الجيب الراكضة، وهي تبثّ الخراب، والإخافة، والتدمير، ها هي مسعورة تطرد البلدوزرات التي راحت تراكم البيوت فوق البيوت، في جلافة تهابها الغابات.

هنا، في حوارة، هولوكوست من دم، وظلم، ووقاحة، هنا يستفرد الوحش الإسرائيلي الذي سمّنه الغرب منذ عام 1948، وحتى هذه الساعة، يستفرد بالأطفال والشيوخ والنساء والبيوت ومشاتل النعناع والحبق وطيور الحمام والكتب، هنا الدم سواقي فداء، وهنا الدم بيرق يصرخ في وجه العالم المجنون: حوارة، حوارة!

هنا بيوتٌ بأهلها، أحرقها آخرُ طغاة الأرض من دون رفّة قلب أو هدب، هنا بيوت تركض في وجعها وألمها، هنا بيوت راكمت بعضها بعضاً فصارت أكوام حجارة لأنّ بلدوزرات الطغاة قضمتها بأنيابها الحديدية. هنا صراخ طويل للعدالة، هنا لا هواء نظيف، ولا شمس، ولا قمر، ولا دروب، ولا نوافذ، ولا موسيقا.. لأنّ الطغاة جعلوا من البارود عتمة طابقة، وحصناً أخيراً لأرواحهم الهالكة!.

أنا هنا، في حوارة، قرب بوابتها، قرب العتبة، أسمع صوت عجوز يتعالى، بوقار، يكاد لولا الحياء يضيء: هذا بيتي، وهذه قريتي، هنا حياتي، وهنا مماتي، هنا عزّتي، هنا كرامتي.

بلى، إنني أراك، أيها الأب العجوز، وأسمعك، فيفرح قلبي لأنّك واقف مثل طود إباء، مثل سور عكا، تُرى أأنت تشرق دمعك أم دمك؟! أأنت تواقف هذا الضوء الدافق الذي يلوح، بعد أن استدار الطغاة وولوا، أم أنّ هذا الضوء يواقفك! أيكما، يا أبي، يواقف مرآة الآخر؟!.

*****

أجل، أيها العالم الضرير، معطوب السمع، مقطوع اللسان، أنا هنا، في حوارة، القرية الفلسطينية البعيدة مسافة زفرة عن القدس، دار حجيجك، القرية المألومة التي تخجل منها قرية الإسبان الغرنيكا، لعظمتها وهي تجعل من دم أبنائها المسفوك كتاباً تقرأ فيه فجرها الآتي، أنا هنا، في قرية حوارة، وقد رأيت ما فعله ويفعله طغاة العالم الأخيرون بالأطفال والنساء، والبيوت، والحواكير، والآبار، وبالشيوخ، وجرار الماء.

هنا دمٌ رحيبٌ يجري مثل نهر طرود، هنا دمٌ على الأبواب والنوافذ، دمٌ على الحيطان، ودمٌ على الثياب والوجوه، ودمٌ على أرغفة الخبز، ودمٌ على الزيتون والزعتر، دمٌ في الدروب والطرقات، ودمٌ في المقابر!.

هنا، أيها العالم الضرير، هولوكوست أبشع وأقسى مما يجري في الغابات، ولا أقول هنا.. ضعفاً، لأن هنا أيضاً، وفي قرية حوارة، كبرياءٌ أرواحها ربيعية، وعزائم وطنية ولدت واقفة مثل شجر السرو، لا تعرف الانحناء!.

هنا، وفي قرية حوارة، الآن.. شهداء، وجرحى، وأسرى، وبيوت صارت خراباً، وهنا أيضاً، وبعد أن استدار الطغاة وولوا، علم بأربعة ألوان يرفرف في الفضاء الرّحيب، يهتف بعلو الصوت: بلادي.. بلادي.

Hasanhamid55@yahoo.com