مجلة البعث الأسبوعية

الصين وروسيا.. الأبعاد القديمة المتجددة

البعث الأسبوعية – بشار محي الدين المحمد:

تتميز العلاقات الروسية الصينية بالثبات الكبير والترسخ الدائم لأسباب ومقومات عديدة تمتد تاريخياً من تحالف البلدين ووقوف روسيا مع الصين إبان احتلالها من اليابان، ووقوف موسكو مع القوى الشيوعية ضدّ القوى الرأسمالية والأمبريالية في صراعها لضمان وحدة واستقلال الصين, ودعمها في الوصول إلى التكنولوجيا النووية والعضوية الدائمة في مجلس الأمن، ورغم غياب البعد الفلسفي والإيديولوجي عن العلاقة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي إلا أننا نلحظ الآن عودة هذا البعد المستند إلى وحدة الجذور الاشتراكية والنظرة إلى جميع القضايا العالمية، على اعتبار أن الصين وروسيا أكبر جارتين، وهما شريكتان استراتيجيتان في التعاون الشامل، وقوتان عالميتان رائدتان، وعضوان دائمان في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ويتبعان سياسة مستقلة، ويعتبران العلاقات بينهما إحدى الأولويات الرئيسية للبلدين، ناهيك عن انعدام الخلافات بين البلدين، إضافة إلى قيام أمريكا والغرب بخلق واقع عالمي يتطلب إعادة الاصطفاف ضدّه بقوة تأكيداً على قيم السلام والعدالة وقيم القانون الدولي الإنساني، ناهيك عن الخطر المشترك الذي يتربص بالبلدين من قبل قوى حلف شمال الأطلسي التي تحاول إشعال الفتن والاستفزازات القصوى من المحيط الهندي إلى المحيط الهادئ كهدف إمبريالي أساسي، ما اقتضى تمتيناً أوسع وأعمق للعلاقات بين موسكو وبكين لقيادة جبهة موحدة ضدّ هذا الخطر.

إن الرئيس الصيني شي جين بينغ يحمل خلال زيارته الأخيرة إلى روسيا تأطيراً جديداً للعلاقات الثنائية، ورؤية مختلفة عما سبق تتطلب تمتين الشراكة الاقتصادية والتجارية والصناعية والتقنية الدقيقة وحتى الزراعية، بما يضمن مجابهة مشاريع الغرب وحروبه الناعمة والخشنة، التي يشنها ضدهما وضدّ أي دولة لا تتبع قيم الأطلسي الفاسدة.

لقد أكد الرئيس شي التزام الصين وروسيا بمفهوم الصداقة الدائمة والتعاون متبادل المنفعة، وقيام العلاقات الثنائية على مبادئ عدم الانحياز وعدم المواجهة وعدم استهداف طرف ثالث، حيث يدعم البلدان بعضهما البعض بقوة في السير على سبيل التنمية، ويؤسسان معياراً ينتج إطاراً جديداً في العلاقات بين الدول، التي تتميز بالاحترام المتبادل والتعاون.

كذلك تكشف الزيارة تنامي الأبعاد الاقتصادية والوطنية الثنائية، فبفضل الجهود المشتركة، بلغ حجم التبادل التجاري في عام 2022 مستوى قياسيا قدره 190 مليار دولار، وزاد بنسبة 116 %، مع استمرار حجم الاستثمارات المتبادلة بين البلدين في النمو، ويُنفذ بنجاح عدد من مشاريع التعاون ذات الأهمية الاستراتيجية في مجال الطاقة والفضاء والطيران والنقل.

 

ويضاف إلى الأبعاد التي تكللها الزيارة، البعد الدولي الاستراتيجي للعلاقة بين موسكو وبكين باعتبارهما من القوى العظمى على مستوى العالم، الساعية لإحلال السلام عبر كبح جماح تمدد «الناتو» وإيقاف تدخلاته بالشؤون الداخلية للدول تحت أي ذرائع كانت، وعبر كسر حالة القطبية التي خلقتها الولايات المتحدة، واستبدالها بأقطاب متعددة ستتبلور وتتعاظم خلال عدة سنوات من الآن، بشكل يضمن قيماً إنسانية مختلفة عما سبق، وخاصة مع تنشيط دور القوتين الروسية والصينية في صنع السلام في أعقد مناطق العالم كمنطقة الشرق الأوسط، وتغير النظرة الدولية من القسم الأكبر من العالم إليهما حيث أخذت العديد من الدول بالابتعاد عن القطب الأمريكي الذي دأب على «شيطنة» روسيا والصين لتمرير مشاريعه في السيطرة على الدول، في وقت نلمس الدور الفعال للصين في السعي لإيجاد تسوية للحرب الأوكرانية التي أشعلها الغرب لاستنزاف روسيا والاقتصاد العالمي والإخلال بأمن الطاقة تحقيقاً لغاياته الدنيئة في امتصاص خيرات الشعوب لصالح جيوب تجار السلاح والنفط وغيرهم من محتكري الحبوب.

يزداد القلق الأمريكي والغربي تجاه تحالف هاتان القوتان، ويضاف إلى القلق السابق من تقدمهما العسكري ونموهما الاقتصادي الذي تم إعلانه في مناسبات سابقة ومنها الاستراتيجية الدفاعية لواشنطن المتلعثمة بين تصنيفهما كخطر فمرة يتم تحديد روسيا ومرة أخرى يتم اختيار الصين كخطر على الولايات المتحدة على المدى البعيد، وهذا مرده إلى فشل الإدارة الأمريكية في إدارك ديمومة وقوة تحالفهما ووحدة جبهتهما التي تشهد انضماماً سريعاً من قوى العالم إلى صالحها، إضافةً إلى إنعزال رجال تلك الإدارة عن الواقع في تقدير سرعة المتغيرات الدولية وعدم مجاراتهم لها.

وعلى عكس ما يروجه الغرب المشدّق بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الصين وروسيا تتمسكان بالنظام العالمي المتمحور حول الأمم المتحدة، والقائم على القانون الدولي، فضلاً عن القواعد والمبادئ الأساسية للعلاقات الدولية المبنية على مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وأهدافه، وتضطلعان بالتنسيق والتفاعل الوثيقين في إطار المنظمة الدولية ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة البريكس، ومجموعة العشرين، وغيرها من المنصات الدولية، وتبذلان جهوداً مشتركة لإضفاء الطابع الديمقراطي على العلاقات الدولية، كما يتعاملان على قدم المساواة وتحالفهما يشكل علاقات متطلعة إلى المستقبل ويمهد الأدوات والركائز لبناء عالم متجانس يشكل قاعدة لعلاقات دولية متطورة، وخاصة بعد السقوط المدوي لمشروع ما يسمى «الربيع العربي» أو مشروع باراك أوباما في الشرق الأوسط وتوابعه كالمشروع «الإبراهيمي الصهيوني» بانتظار سقوط بقية مشاريع التآمر وخاصة في منطقة آسيا الباسفيك وصولاً للإنهاء التام للنفوذ الأمريكي في هذا العالم.