ثقافةصحيفة البعث

“الكتاب الأخضر”.. انتصار العلاقات الإنسانية في النادي السينمائي

ملده شويكاني

“عليك أن تمتلك شجاعة لتغيير قلوب الناس”، الجملة التي قالها د. شيرلي عازف البيانو ومؤلف الجاز الشهير، في فيلم “الكتاب الأخضر”، بعدما نجح في تحقيقها وكسب قلوب البيض والزنوج، إلا أنه لم يفلح في تغيير القوانين المجحفة بحق الزنوج الأمريكيين في فترة الستينيات من القرن الماضي، رغم أنه حاصل على الدكتوراه بالموسيقا وعلم النفس والطقوس الشعائرية، وعزف في البيت الأبيض.

“الكتاب الأخضر” إخراج بيتر فاريل (2018)، والمأخوذ عن السيرة الذاتية لعازف الجاز “د. شيرلي ماهر شالا علي “لاعب المصارعة (توني ليب – فيجو مورتينسين) اتخذ طابع التوثيق الواقعي، ولاسيما أن ابن توني ليب هو الذي كتب السيناريو، وقد تمّ اختياره للعرض والنقاش في جلسة النادي السينمائي بالتعاون بين المؤسسة العامة للسينما ومؤسسة أحفاد عشتار في سينما الكندي، بإشراف المخرج وليم عبد الله.

تناول الفيلم قضية الصراع بين الزنوج والبيض الأمريكيين، ومن زاوية أخرى ارتبط بالثقافة الموسيقية وتأثيرها على الفرد والمجتمع، إذ أظهرت الأحداث تأثير البعد الثقافي في يوميات “د. شيرلي” وسلوكياته الراقية بأناقته وتنغيم كلامه وطريقة طعامه وأمانته وإخلاصه، في حين بدا “فيليب” عفوياً ومستهتراً في بعض المواقف، بغية إيضاح رسالة الفيلم بأن الإنسان بذاته بعيداً عن لونه وانتمائه.

تبدأ قصة الفيلم من عرض “د. شيرلي” العمل على “فيليب” الإيطالي الأصل لاعب المصارعة مرافقته وقيادة سيارته في رحلته إلى جنوب أمريكا التي تستغرق شهرين والتنقل بين ولايات عدة لتقديم الحفلات مع فرقته المؤلفة من عازف التشيللو وعازف الكونترباص اللذين يرافقانه بالعزف، ومن ثم العودة إلى نيويورك ليلة عيد الميلاد “الكريسماث” وخلال الرحلة يتعرّض “د. شيرلي” لمواقف صعبة ينقذه منها “فيليب” ويدافع عنه ويضطر لإشهار السلاح لحمايته.

وتمضي الكاميرا من ولاية إلى أخرى ومن مدينة إلى أخرى، ويمرّر المخرج مشاهد متتابعة ولقطات طويلة لتصوير الطبيعة الجميلة والأسواق وحركة المارة والمنازل، وينوع بزمن الفيلم الفعلي بين الليل والنهار، ويركز على العاصفة الثلجية والأمطار المنسكبة كعناصر مساندة للمواقف الصعبة التي مرّ بها “د. شيرلي”.

قوانين لا إنسانية

ومنذ المشاهد الأولى يعرّف المخرج بـ”الكتاب الأخضر” الذي يعني خارطة الطريق وأسماء المطاعم والفنادق التي يسمح فيها للزنوج بارتيادها، وتتوقف الأحداث في إظهار الاستهانة بالزنوج في الحفلة الأولى إذ نبّه د. شيرلي فيليب بأنه لا يعزف إلا على بيانو من نوع “ستانيواي” كما كتب في عقود العروض، فيفاجأ فيليب ببيانو ممتلئ بالقمامة، ويقول له مسؤول الصالة “الزنوج يعزفون على كل شيء” فيضربه فيليب ويتمّ استبدال البيانو.

وتتوالى الأحداث اللاإنسانية بحق الزنوج، فرغم أنه عازف البيانو الشهير الذي يستحوذ على إعجاب الحاضرين الأثرياء ويصفقون له مطولاً في المسارح وأماكن العزف الراقية، إلا أنه لا يسمح له باختراق القوانين، ففي إحدى الحفلات يمنع من استخدام الحمام المخصص فقط للبيض، فيضطر د. شيرلي لإيقاف العرض نصف ساعة ليذهب إلى الفندق الذي ينزل فيه ثم يعود إلى الحفل والمفارقة أنه يودع بحفاوة، المفارقة الأخرى أنه في مدينة لا يدخلها الزنوج فيضطر للبقاء بالسيارة، وتوجد فنادق لا تستقبل الزنوج.

ضياع

ويركز الفيلم على ضياع د. شيرلي بعدم الانتماء فهو يعزف للبيض لكنه مرفوض منهم، وفي الوقت ذاته يرفضه الزنوج لأنه لا ينتمي إلى عالمهم البسيط المهمّش، ويبدو هذا في مشهد مرور سيارته الفارهة وهو ينظر من نافذته نصف المفتوحة إلى الحقول التي يعمل بها الزنوج وينظرون إليه باستغراب وحزن.

شجاعة الرفض

في نهاية الفيلم يمتلك د. شيرلي شجاعة الرفض والتمرد على القوانين الظالمة، ففي العرض الأخير في مطعم فاخر تمّ حجزه بالكامل يفاجأ بعدم السماح له بتناول الطعام بالمطعم قبل العزف، والتوجّه إلى مطعم للزنوج، فيطلب منه فيليب أن يرفض العزف ويغادر المطعم، ويتخذ د. شيرلي القرار بالمغادرة، ويكتمل الحدث بذهابهما إلى مطعم الزنوج وعزفه ومشاركة الأوركسترا الصغيرة معه بحب وفرح ما يدلّ على اندماجه معهم.

الموسيقا والتمييز

الحدث المؤلم باعتراف د. شيرلي خلال الأحداث بأنه لا يسمح للعازف الزنجي بعزف الموسيقا الكلاسيكية التي درسها لشوبان وبيتهوفن، وموزارت وغيرهم، لذلك فرض حضوره بموسيقاه الخاصة التي يؤلفها. وتنتهي الرحلة فيصلان بصعوبة من شدة العاصفة الثلجية إلى نيويورك ويعود فيليب إلى عائلته.

ليلة الميلاد

وفي المشهد الأخير بعد وصول د. شيرلي إلى منزله الفاخر المليء بالتحف والذي شبهه فيليب بالقلعة، يقرر الذهاب إلى منزل فيليب والاحتفال معهم بعيد الميلاد وينتهي الفيلم بعناق طويل بينهما واستقبال حافل له إيماءة إلى قوة العلاقات الإنسانية بعيداً عن اللون.

وبعد اللقطة الأخيرة يعرض المخرج صوراً حقيقية لفيليب ود. شيرلي ولاستمرار صداقتهما الوطيدة التي استمرت إلى وفاتهما في عام 2013 بفارق أشهر.

اللعبة وفهم الخارطة

بعد العرض عقب المخرج المشرف وليم عبد الله على الفيلم الذي حاز على جائزة الأوسكار، بتناول قضية التمييز العنصري بطريقة لطيفة كوميدية في مواضع، وأدخل المشاهد بتحليل وفهم خارطة أمريكا لأماكن الزنوج والبيض، واللعبة بالفيلم باختيار السائق الأبيض والماستر الزنجي، كما أثنى على أداء الممثلين الذي أخفى الاختلافات العرقية وأظهر إنسانية الإنسان، وناقش الفكرة التي في نهاية الفيلم بعودة د. شيرلي إلى أهله وبيئته حينما عزف معهم بالحفلة الشعبية بعيداً عن عالمه، ما يشير إلى قوة الانتماء، كما أوضح تفضيل الأبيض الأمريكي على الأبيض الأوروبي.