دراساتصحيفة البعث

تجارة الموت تحت ستار الازدواجية والحملات الإعلامية

سمر سامي السمارة 

ينشط تجار الموت تحت ستار من الازدواجية والحملات الإعلامية، اليوم، على النحو الذي كانوا عليه قبل أكثر من قرن من الزمان. بدأت المجازر الرعناء في الحرب العالمية الأولى بمقتل رجل واحد، وهو ولي عهد إمبراطورية أوروبية لم يكن أحد يعرف اسمه في ذلك الوقت، حيث كان الأرشيدوق فرانز فرديناند كارل لودفيج جوزيف ماريا الوريث المفترض للإمبراطورية النمساوية المجرية في حزيران 1914. كان قاتله طالباً شاباً من صرب البوسنة، وأدى مقتل ولي العهد إلى سلسلة كارثية من الأحداث أدت إلى مقتل أكثر من 20 مليون شخص، نصفهم من المدنيين، فضلاً عن إصابة 20 مليون أخرين.

ضاعت أجيال كاملة من الشباب في إنكلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وألمانيا، و دُمرت الاقتصادات الوطنية، وتسببت الحرب العالمية الأولى في أكبر كساد عالمي في القرن العشرين، وأصبحت ديون البلدان الكبرى، باستثناء الولايات المتحدة، تؤرق النظام الاقتصادي في حقبة ما بعد الحرب، كما ارتفعت معدلات البطالة، وازداد التضخم بشكل كبير في ألمانيا.

في الواقع، أنهت الحرب العالمية الأولى فترة من النجاح الاقتصادي، وتبع ذلك عشرين عاماً من حالة عدم الاستقرار المالي والمعاناة، ويُعتقد أن قدامى المحاربين العائدين إلى الوطن من الحرب العالمية الأولى جلبوا معهم الإنفلونزا الإسبانية التي أودت بحياة قرابة مليون أمريكي، فضلاً عن أنها أرست الأساس للحرب العالمية الثانية.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل كان مقتل ولي العهد ببساطة هو الذي تسبب في نشوب حرب عالمية، أم أن هناك عوامل أخرى مؤثرة؟ ولماذا شاركت الولايات المتحدة في صراع أوروبي، خاصة أن عدداً كبيراً من الأمريكيين كانوا ضد تورط الولايات المتحدة في تلك الحرب؟

في الحقيقة، على الرغم من المعارضة الشعبية الكبيرة، دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى إلى جانب الحلفاء إثر تصويت مجلس النواب لصالح إعلان الحرب بأغلبية 373 – 50، ومجلس الشيوخ 82 مقابل ستة، حيث تحدى السياسيون رغبات الناس الذين من المفترض أن يمثلوها.

ماذا كان الهدف من التصويت؟

كان البنك الأمريكي “جي بي مورغان” وشركاه واحداً من أكبر شركات الصيرفة الاستثمارية في العالم، كما كان وكيل الأعمال الرسمي في الولايات المتحدة للحكومة البريطانية، ووجهة الاتصال الرئيسية لقروض الحلفاء خلال الحرب. وبالمثل، فإن شركة “دوبونت” كانت أكبر شركة كيميائية في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت هاتان الشركتان الثريتان والقويتان، جنباً إلى جنب مع الشركات المصنعة الأمريكية الأخرى، بما في ذلك شركات تصنيع الأسلحة الأمريكية، على صلة وثيقة بالرئيس وودرو ويلسون.

وعندما بدأت الحرب العالمية الأولى، كان بنك “جي بي مورغان” قد منح أوروبا قروضاً واسعة النطاق كانت ستفقد إذا هُزم الحلفاء، كما كانت “دوبونت” وشركات تصنيع الأسلحة الأمريكية الأخرى قادرة على تحقيق أرباح فلكية في حال دخلت الولايات المتحدة الحرب.

وفي كتاب له عن دور هذه الشركات، والبنوك في الحرب العالمية الأولى، وهدفها في تحقيق أعلى المبيعات، ذكر المؤرخ الأميركي الآن بروغار أنها حققت ربحاً بقيمة عشرة آلاف دولار من كل دولار وظفته لمقتل كل فرد في الحرب العالمية الأولى، علماً أن الحرب قتلت أكثر من عشرين مليوناً من الجانبين، وأصابت عشرين مليون آخرين بجراح وإعاقات. وكما كتب “جي بي مورغان” إلى ويلسون في عام 1914: “يجب أن تكون الحرب فرصة هائلة لأمريكا”.

عندما انتهت الحرب، وتم إحصاء القتلى والجرحى، إزدادت الشكوك داخل الولايات المتحدة بأن المصالح التجارية كانت الدافع الرئيسي لمشاركة الولايات المتحدة في هذه الحرب، وبدأت التقارير الاستقصائية وجلسات الاستماع في الكونغرس.

وفي عام 1934، أصبح كتاب “تجار الموت تجار الحياة” لـ هيلموث إنغل بريخت من أكثر الكتب مبيعاً، حيث كشف الكتاب الممارسات التجارية غير الأخلاقية لمصنعي الأسلحة، وحلّل أرباحهم الهائلة خلال الحرب العالمية الأولى، كما  كشف بالوثائق والسجلات الرسمية كل ما تقوم به هذه الشركات والصناعات الحربية، والبنوك من نشاط عند أصحاب القرار لاتخاذ قرارات الحرب، أو المشاركة في الحروب وما تقدمه من رشوات لأعضاء في الكونغرس ولمسؤولين أميركيين لاستخراج قرار الحرب، الأمر الذي أثار غضب الرأي العام الأمريكي.

في عام 1934، وقع قرابة 100 ألف أمريكي على عريضة تنتقد زيادة إنتاج الأسلحة، كما شارك قدامى المحاربين في مسيرة في واشنطن عام 1935 من أجل السلام. وفي العام ذاته، نشر الجنرال الأمريكي سميدلي بتلر، الحائز على ميدالية الشرف مرتين، كتاباً بعنوان “الحرب و مضرب الحرب”، وصف نفسه فيه باللاعب الذي أمسك بمضرب الحرب  و بالمجرم الذي عمل لمصلحة الرأسمالية ولمصلحة “وول ستريت” والمصرفيين، حيث قال باختصار: “كنت مبتزاً، رجل عصابات للرأسمالية”، وأصبح كتابه من أكثر الكتب مبيعاً.

أدت الموجة المتزايدة من الغضب العام إلى قيام السناتور جيرالد ناي ببدء جلسات استماع في الكونغرس للتحقيق فيما إذا كانت الشركات الأمريكية، بما في ذلك شركات تصنيع الأسلحة، قد دفعت الولايات المتحدة إلى الحرب العالمية الأولى. وفي غضون عامين، عقدت “لجنة ناي” 93 جلسة استماع، واستدعت أكثر من 200 شاهد، بما في ذلك جي بي مورغان، وبيير إس دوبونت.

قامت اللجنة ببحث مستفيض في سجلات مصنعي الأسلحة، وتوصلت إلى الكشف عن الأفعال الإجرامية وغير الأخلاقية بما في ذلك رشوة المسؤولين الأجانب، وتشجيع الإدارة الأمريكية للحصول على مبيعات خارجية، وبيع الأسلحة لكلا طرفي النزاعات الدولية، والتقويض السري لمؤتمرات نزع السلاح.

أعلن السناتور ناي، في خطاب إذاعي في تشرين الأول 1934: “كانت اللجنة تستمع يومياً إلى رجال يسعون جاهدين للدفاع عن أفعالهم التي كانت تحرض على جني الأرباح من خلال لعبة تسليح العالم لمحاربة نفسه”.

أوصت لجنة ناي بمجلس الشيوخ بضبط الأسعار، ونقل أحواض بناء السفن التابعة للبحرية من أيدي القطاع الخاص، وزيادة الضرائب الصناعية، واقترح السناتور ناي أنه عند إعلان الحرب من قبل الكونغرس، يجب مضاعفة الضرائب على الدخل السنوي الذي يقل عن 10 آلاف دولار بشكل تلقائي، ويجب فرض ضريبة على الدخل المرتفع بنسبة 98٪.

كان الرأي العام الأمريكي غاضباً من النتائج التي توصلت إليها اللجنة، وبالتالي تم انشاء أكبر منظمة للسلام. ومع ذلك حارب رجال الأعمال هذه المنظمة، وضغطوا على أعضاء الكونغرس لقطع التمويل عن لجنة ناي. وفي النهاية، أثبتت لجنة ناي أن هذه الشركات كانت في قلب ومركز النظام ما جعل خوض الحرب أمراً لا مفر منه، كما مهدوا الطريق إلى الحرب العالمية الثانية، حيث انفجر فيما بعد المجمع الصناعي العسكري، وهيمن على الحياة الاقتصادية والسياسية الأمريكية.

اليوم، تزدهر تجارة الموت تحت ستار من الازدواجية والحملات الإعلامية اللامعة، فقد استطاعوا استيعاب وسائل الإعلام السائدة، والأوساط الأكاديمية في تكتلهم، لكن جرائمهم واضحة، والأدلة دامغة، فأينما يتجهوا تتبعهم المعاناة ورائحة الموت، وجرائم الحرب والفظائع، والأرباح.