الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

رغم الزرد والأبواب المغلقة!

حسن حميد

أجل، ثمّة كتب بشرية لم تكتبها الأحبار والأقلام، بل نقشتها العقول لتبقى حيّة موّارة بالجميل الآبد، والحقّاني السّرمدي، لأنّ ما قالته هو حياة وأوفى، وما أشارت إليه هو انتباهات الفطنة وأزيد، وما حلمت به يكاد يكون غاية غايات الدنيا وأبعد!.

من هذه الكتب الشّاهقة في قيمتها كتابا الإغريق، “الألياذة”، و”الأوذيسة”، وهما كتابان لضفتي الحياة التي يعيش البشر لأجلهما، أعني الكرامة حين تُمسّ بأذى، أو تُهدّد بخطر، فقد جسّدت الألياذة سعي الإغريق لاستعادة الكرامة التي مسّها العطبُ حين خطفت هيلين فكانت المرأة، وللمرّة الأولى في التاريخ، مرآة للكرامة، وسعياً لاستعادتها؛ وكانت الأوذيسة الضفة الأخرى للحياة كلّها، أعني المكان ايثاكا، مملكة أوليسس!.

والمدهش في الكتابين معاً هو أنّ الزمن كان متماثلاً في كلا الضفتين، عشر سنوات أمضاها الإغريق في استعادة الكرامة، وهي الزمن الفيزيائي الذي عاشوه طوال حرب شرسة كانت صورتها الأبدى في الفقد، والخراب، وتعطيل الحياة، وعشر سنوات أمضاها ملك ايثاكا، أوليسس، وهو يحاول العودة إلى المكان!

لقد كانت الكرامة حلماً كبيراً وشاسعاً في الإلياذة، وكان المكان حلماً كبيراً وشاسعاً في الأوذيسة، أيضاً، وكلاهما، الكرامة والمكان، شكّلا اجتماع حياة الإغريق تمثيلاً للوعي بالحياة، وعشقاً للمكان.

أقول هذا، وأشير إليه، في هذه الآونة، وأنا أقرأ المدونة الأدبية التي يكتبها أسرانا في سجون عدونا الإسرائيلي ومعتقلاته، فلا أجد فيها سوى هاتين الضفتين: الكرامة والمكان، وتلازمهما المكين، وهما تحتضنان وعي الذات الفلسطينية، فالزمن الفيزيائي الذي يعيشه الأسرى داخل المعتقلات الإسرائيلية، هو زمن أطول من الصبر، وأثقل من الحديد المصهور، وهو زمن مرفوع على كفّ لم تعرف الرّجفة، رغم ما واجهته، وعرفته، وعانت منه! إنه زمن يزهو بالمعنى لأنه مصروف من أجل استعادة الكرامة، أما المكان الذي لا تعريف له، ولا صورة، لدى أسرانا سوى الوطن، فهو ما يحتضنونه، وما يدورن حوله، لأنه صفوة المعنى، وما يعيشون من أجله، لأنه هو الغاية الجليلة، وذروة الأحلام، ففي المكان يربخ التاريخ والعمران، وفيه تتجول الآداب والفنون، ومن أقصاه إلى أقصاه يتعالى نشيد صادح عفي: موطني، موطني!.

مدوّنة الآداب والفنون التي يعمل عليها أسرانا في معتقلات عدونا الإسرائيلي، مدونة باذخة في الرفعة والسمو والقيمة والرؤيا، فهم لا يكتبون عن جروحهم، والأذيات التي يتعرضون لها داخل زنازين عدوهم ، قدر ما يكتبون عن الكرامة الفلسطينية التي استهدفها الإسرائيلي منذ أول مستوطنة، ومنذ أول مجزرة، ومنذ أول ظهور لتوحشه الباطش، إنهم وحين يشيرون إلى صبرهم وصمودهم، وتعايشهم مع كرّ سنوات العمر داخل الزنازين، إنما يشيرون إلى الكرامة التي أوقفوا حياتهم لأجلها كيما يستعيدوها كاملةً!.

سجناء فلسطينيون، أحاطت بهم الأحكام المؤبدة المتعدّدة في أطوارها، ومع ذلك يكتبون عن الكرامة لأنها هي الحياة، ويمدّون الأشواق دروباً نحو المكان لأنه هو الوطن بتمامه واكتماله، إنها الفذاذة التي تتجاوز غايات الجسد المألوم الذي يراد له أن ينطفئ كي تنطفئ جذوة الكرامة، وهي الفذاذة التي تستبقي في جرارها الحنينَ والأشواقَ للمكان الذي صانته أرواح الأجداد ليكون معنى السيادة وغايتها!.

لقد أراد عدونا الإسرائيلي أن يجعل معتقلاته، وقد تكاثرت كالفطر المسموم، هاديساً آخر يشبه هاديس الإغريق، أيّ من يدخل إليه لا يخرج أبداً، لكن، ها هي، عزائم أسرانا، تخرج كتباً وفنوناً على شكل روايات، وأشعار، وسير ذاتية، ولوحات، في كلّ منها حياةٌ ماتعة في جولانها، وقولاتها، وغاياتها، وأحلامها الباحثة عن الكرامة، وقد أُريد لها أن تُثلم، وعن المكان الذي أُريد له أن يُسرق ويُنهب!.

اليوم، وفي كلّ ما يكتبه الأسرى داخل زنازين عدونا، وهم يعانون ويعانون، خلاصةُ حلمنا كي نرى الضفتين: الكرامة وقد غدت حقولاً، وقرى، ودور عبادة، وأعراضاً، ومعنى، والضفة الثانية: هي المكان الذي غدا كتاباً لمضايفات الأجيال المحروسة بأفعالهم البهّارة!.

إنهما معاً، الكرامة والمكان، عشقنا المورق الظّليل الذي يطلّ علينا من خلف قضبان السّجان الإسرائيلي شمساً لا أبهى ولا أجمل.. رغم زرده وأبوابه المغلقة!.

Hasanhamid55@yahoo.com