دراساتصحيفة البعث

نهج المقاومة.. انتصار أيار أنموذجاً

د. معن منيف سليمان 

جاء عرس التحرير (25 أيار عام 2000) الذي تمثل باندحار الاحتلال الصهيوني عن الجنوب اللبناني ثمرة ونتاجاً لصمود شعبنا العربي في لبنان، ومواجهته البطولية منذ الاجتياح الأول عام 1978. وللمقاومة الوطنية التي انطلقت إثر الاجتياح الثاني عام 1982، بعملية قصف مستعمرة كريات شمونة بالصواريخ، الدور الكبير الذي حمل بعداً قتالياً لم يكن العدو يتوقعه، وبالتالي التأكيد على أهمية نهج وخيار المقاومة في سبيل تحرير الأرض والإنسان.

في عام 1978 اجتاح الجيش الصهيوني جنوبي لبنان، ثم غزا بيروت عام 1982، وتكرّرت أعماله العدوانية، ما استدعى ردّ فعل شعبياً طبيعياً تجسّد في نشوء مقاومة وطنية تنتسب إلى أبنائه الشرفاء. هذه المقاومة حافظت على بقائها واستمراريتها حتى اشتد عودها في ظل ظروف إقليمية ودولية متغيّرة، ففي بادئ الأمر اتخذت من العمليات الاستشهادية وسيلة لتوجيه ضربات موجعة للعدو الصهيوني، وبرزت هناك أسماء لاستشهاديين أبطال نذكر منهم الشهيدة سناء محيدلي، ثم انتقلت المقاومة إلى موقع متقدّم في مجابهة العدو، بسبب طبيعة التركيبة السكانية في المناطق المجاورة للشريط الحدودي، وتوفر الدعم الإقليمي والحاضن الشعبي الذي تجاوز التقسيمات الطائفية والمذهبية والسياسية، فكان ذلك رصيداً ومعيناً في نجاح المقاومة في تحقيق انتصار مؤزّر على الجيش الصهيوني المحتل وعملائه، تمثل بتحرير الجنوب اللبناني، حيث قدمت المقاومة نموذجاً عملياً ومثالاً يُحتذى به على نجاح خيار المقاومة من أجل تحرير الأراضي المغتصبة.

المقاومة الوطنية في لبنان التي هزمت المحتل لم تكن خياراً وحسب، بل كانت قدراً آمن به المقاومون، فقدموا في سبيله التضحيات الجسام، حيث ارتقى العديد من الشهداء والاستشهاديين على مذبح الوطن، مسقطين بذلك أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ومقولة حماية أمن المستوطنات.

استطاعت المقاومة الوطنية اللبنانية من خلال استبسال مقاتليها وارتفاع وتيرة العمليات النوعية الجريئة ضد الاحتلال الصهيوني والميليشيات العميلة التابعة له، أن تحقق انتصارات نوعية أربكت المحتلين الصهاينة، ولعلّ أهم ما نجم عن هذه العمليات النوعية للمقاومة أنها أجبرت العدو الصهيوني على اتخاذ قرار يتضمن تخفيض عدد الضباط والجنود العاملين في الشريط المحتل إلى سبعمئة عنصر لضمان تخفيف نسبة الخسائر البشرية في صفوف جيش الاحتلال، وهذا القرار العسكري أملته آنذاك ضغوط سياسية ناجمة أساساً عن الردود السلبية التي عمّت الرأي العام الصهيوني جرّاء توالي وصول توابيت الجنود الصهاينة.

كل هذه العوامل المجتمعة زلزلت أرض الجنوب تحت أقدام الغزاة والعملاء على حدّ سواء، ولم يكن أمام قيادة الاحتلال مناص من الاعتراف بالخسارة وإجبارها على اتخاذ قرار مؤلم وتحديد موعد لبدء الانسحاب من جنوبي لبنان، في حين كانت المعلومات تؤكد وقتها أن جيش الاحتلال كان منهمكاً في تسليم أسلحته ومواقعه الحصينة لميليشيات العميل “أنطوان لحد”، ولكن المقاومة نجحت في رسم “سيناريو” الانسحاب المهين للصهاينة، واضطرت قوات العدو في النهاية إلى الانسحاب من جنوبي لبنان مهرولة، وقبل الموعد المحدّد للانسحاب، فنجم عن هذا الانسحاب القسري السريع تحطم المنطقة الأمنية وما يُسمّى بجيش لبنان الجنوبي، وتبخر خطة الانسحاب الصهيونية “الأحادي الجانب” ولذلك كسبت المقاومة كل الأوراق.

وهكذا نسفت المقاومة بقوتها وصمودها كلّ خطط الصهاينة، وأحرجت جميع ترتيباتها لما بعد الانسحاب، وقطعت الطريق على جميع المناورات السياسية الداخلية والخارجية، والأهم من ذلك كله أنها حسمت جميع التكهنات التي راهنت على فتنة تنطلق من الجنوب لتمتد إلى سائر مناطق لبنان، حيث ظنّ الصهاينة أنهم قادرون على اغتيال انتصار المقاومة اللبنانية من مدخل الطائفية.

من الطبيعي أن يستخلص العرب من هذا الانتصار الدرس الرئيسي الذي كادوا ينسونه، وهو الذي يؤكد على أهمية خيار المقاومة من أجل تحرير الأرض، فما حدث في جنوبي لبنان ليس إلا نموذجاً حياً لنمط من المقاومة خبرته من قبل المجتمعات العربية وغير العربية معاً. ولعلّ أهم درس يمكن استخلاصه من ملحمة التحرير هو إمكانية هزيمة الاحتلال في نهاية الأمر، وأن أي شعب له الحق المشروع في مقاومة المحتل، وسيكون النصر حليفه مهما بلغت قوة وجبروت هذا المحتل.

لقد أثبتت المقاومة أنها قادرة على الانتصار في ظلّ الخلل الكبير في موازين القوى بينها وبين أعدائها، وأظهرت عظم الإمكانيات النضالية التي يختزنها الشعب العربي، وقدراته الهائلة على العطاء والصمود، والأهم شكّل انتصار المقاومة والتحرير تقويضاً نسبياً لقدرة الردع الإسرائيلية، التي تعدّ أحد الركائز الأساسية لما يُسمّى “الأمن القومي الإسرائيلي”، حيث نجحت المقاومة في تغيير قواعد اللعبة الجديدة فسنّت قانون “السن بالسن والعين بالعين”، وأصبح الصاروخ العربي بخلفية حامليه ومطلقيه الإيمانية يواجه كلّ مخزون السلاح الصهيوني بعد هزيمة عام 2000، وما عدوان تموز عام 2006، إلا محاولة فاشلة لإعادة البريق لقوة الجيش الصهيوني الذي كانوا قد روجوا له بأنه الجيش الذي لا يقهر.

سيبقى الأمل معقوداً على خيار المقاومة من أجل استكمال التحرير في لبنان وفلسطين والجولان وسائر الأراضي المحتلة طالما أن الشعب العربي بقي محتفظاً بإرادته، ومحافظاً على كرامته وثابتاً على مواقفه المبدئية بما فيها موقفه الداعم لخيار المقاومة بلا تحفظ، ورافضاً لسياسة الاستسلام للمشروع الصهيوني، فأمتنا العربية بحاجة اليوم إلى رجال وطنيين من أبنائها يستنهضون الأحاسيس الوطنية والقومية مجتمعة أو منفردة، ويوفرون الزاد الكافي من الوعي والإدراك والقدرة على استنباط وسائل المواجهة للتخلّص من وطأة التبعية والاستعباد والفرقة والاستكانة والاستسلام، واستعادة حقوق الأمة الضائعة وأمجادها الغابرة، وهو ما لا يتحقق إلا عن طريق الممانعة والمقاومة. فقد أثبتت التجربة اللبنانية في تحرير الجنوب اللبناني أن نهج الممانعة والمقاومة هو الطريق الوحيد لتحرير الأوطان من مغتصبيها، فليس من المبالغة القول: “إن مستقبل المقاومة هو الذي سيحدّد مستقبل المنطقة العربية”.