الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عودة إلى النّدَم

عبد الكريم النّاعم

جاء صديقي، وكان الجوّ قد اعتدل قليلاً فخفّتْ حدّة البرْد، وفور جلوسه قال وكأنّه يتابع ما بدأنا في الكلام عليه، فقال وعلى وجهه علامات الاهتمام: يوم رأيتُك آخر مرّة وكان الكلام عن النّدم، وانقطع بسبب مجيء ضيف آخر،.. في تلك الليلة زارني جار من جيراني، وكنتُ ما زلتُ متأثّراً بالحديث فسألتُه: “هل ندمتَ يوماً ما على عمل ما، قمتَ به”؟.

بدتْ عليه الحيرة أوّلاً ثمّ تكلّم وكأنّه يحكي عن شخص آخر فقال: “لا، إذا كان هناك مَن يُقلقه النّدم لأمر ما، فأنا لا أعرف هذا القلق، لماذا أندم؟!! إذا صدر فعل ما، ربّما يوجب النّدم عند الآخرين فأنا لا أعرفه، فعلٌ صدر وانتهى، فبماذا يُفيد النّدم؟!! أنا أتجاوزه وأمضي، ولا أفكّر حتى في عواقبه”، فهل مثل هذا النّوع من الرجال موجود؟!

قلت: “الدليل على وجوده أنّك أنت مَن جالسَه، وفي التّكوين البشريّ حالات يصعب إحصاؤها، ولقد اهتمّ علماء النّفس بذلك فوجدوا أنواعاً متعدّدة، وما ذكرتَ قد يكون نوعاً نادراً، فهذا يعيش للحظته، شبه منقطع عمّا مضى، وغير آبهٍ بما يجيء، وقد تشكّل حالتُه هذه موضع اطمئنان شخصي، فما يكاد يقلق، وفي الأزمات يبدو عليه الصمت، ولا يشغله إلاّ ما يُواجهه، في اللحظة المُعاشة”.

قال: “تذكّرتُ في هذا المجال بعض المقابلات التي بثّتْها الأقنية الفضائيّة، أو نُشرتْ في الصحف وكانت مقابلات مع مَن لهم شهرة فنيّة أو كتابيّة إبداعيّة، فبعضهم قال إنّه غير نادم على شيء، وأنّه لو أُتيح له أن يعاود حياته من جديد فسيمشي على الدرب الذي سار فيه، أليس في هذا الكلام مبالغة”؟!!.

قلت: “أنا أرجّح أنّ مثل هذا الكلام يصلح للتبجّح، فما من إنسان على وجه البسيطة، دع الأنبياء وبعض من سلكوا سلوكهم، فهم أبعد ما يكونون عمّا يُندَم عليه، وما عداهم فلا بدّ، في حالات يقظة الوجدان، أو تنبّه الضمير من أنْ يشعر بالنّدم، وقد تتضخّم هذه عند أصحاب الحساسيات العالية فتشكّل غمّة نفسيّة ما تكاد تُفارق صاحبها، إذ ما من إنسان إلاّ وفي حياته بعض الارتكابات أو الهفوات، والعاقل يسترجع، حتى دون قصد شيئاً ممّا مرّ به، فيشعر بقشعريرة النّدم، وتلك حساسية مُتعِبة، قد تُقلق صاحبها مدى حياته، وهي حالة المُبالَغة فيها قد تُفسد معنى الحياة”.

قاطعني قائلاً: “هل تَذكُّر الجميع واحداً”؟

قلت: “لقد ذكرت أنّه يتعدّد بتعدّد حساسيات المتذكّرين، والتذكّر غالباً يقتحم عليك وقتك، فتُبعده، ثمّ يُعاود الكرّة، حتى لكأنّ له وظيفة نفسيّة، إذْ ما من شيء ليست له وظيفة، سلبيّة كانت أم إيجابيّة، وهنا سأشير إلى فارق نوعي في عمليّة التذكّر، فبعضهم حين يعود إلى مراحل المراهقة وما بعدها، بما فيها من ارتكابات أو هفوات، بعضهم يحنّ إليها حنين الذي لو أُتيح له أن يعاود فعل جهالاته فلن يتردّد، وهذا ليس في تذكّره شيء من النّدم الذي يدخل في باب التّوبة، وثمّة مَن إذا تذكّر ذلك تمنّى لو أنّ بينه وبينه بُعد المشرِق عن المَغرب، ويتوجّع، وتنتابه آلام نفسيّة مبرّحة”.

قاطعني قائلاً: “أليس في ذلك مُبالغة ضارّة، ولا تنسجم مع الوعد الإلهيّ بالغفران، والذي عرف ضعفنا فجعل الحسنة تمحو عشر سيّئات”؟!.

قلت: “نعم، أنت على حقّ، وهذا يذكّرنا بقوله تعالى في كتابه الكريم “وَلوْ أَخَذَ اللهُ الناسَ بما فعلوا لَما تَرَكَ على ظهرها منْ دابّة”، وقال عزّت جلالتُه، وعلا كبرياؤه: “وَيعفو عن كثير..”.

aaalnaem@gmail.com