تحقيقاتصحيفة البعث

قتل الطفولة.. مسؤولية مجتمع أم قانون؟!

فيما مضى كان تناول قصص تعرّض الأطفال لاستغلال جنسي خجولاً لاعتبارات اجتماعية عديدة، لكن مع طغيان وسائل التواصل الاجتماعي بات كتم سرّ هذه الحوادث المؤسفة أمراً غير ممكن، واللافت في هذا الخصوص أن الجهات المختصة صارت تسلّط الضوء عليها في محاولة منها للتوعية وحضّ الأهالي على تقديم ادّعاءات في حال تعرّض أحد الأبناء لحادثة استغلال جنسي بشتى أنواعه، فمؤخراً بدأنا نقرأ ونشاهد على منصات وزارة الداخلية الكثير من أخبار هذه الجرائم، ومنها جريمة إقدام شخص على قتل ابنته ذات الأربعة عشر عاماً بعد الاعتداء عليها ودفنها في فناء منزله الكائن في محلّة “تل شغيب” بحلب.

وقبل الدخول في التفاصيل نشير إلى أن إحدى الدراسات المحلية أشارت إلى تضاعف معدلات ظاهرة الاستغلال الجنسي للأطفال في سورية ثلاث مرات في السنوات الخمس الأخيرة، الأمر الذي يفرض على المجتمع الوقوف يداً واحدة لمواجهة هذا الخطر الذي يهدّد الأمان الأسري.

محلّ شبهة..!

للأسف في مجتمعاتنا الشرقية عموماً ينظرون للمعتدى عليه “محل شبهة” ويتناسون الجاني والظروف التي شجّعته أو دفعته لارتكاب الجريمة، حيث نرى أهالي المعتدى عليهم يسارعون للاطمئنان على سلامة الضحية وتحديداً إن كانت “فتاة” للتأكد من أنها ما زالت “عذراء” ليتجنبوا الفضيحة ويهرعوا إلى طيّ تلك الصفحة وكأنها ضرب من الماضي، متناسين الأذى النفسي الذي وقع للضحية سواء أكانت فتاة أم صبياً.

مدى الحياة

هنا ربما لا يعلم أو يجهل الأهل أن الصدمة التي تحصل مع  الطفل بعد الجريمة تتشكّل في بنيته المعرفية التي لا يمكن نسيانها أبداً، وربما تتحوّل إلى شذوذ جنسي واضطراب في الهوية الجنسية نتيجة هذا العمل، وذلك وفق ما أكد الدكتور غسان منصور الأستاذ في كلية التربية بجامعة دمشق، موضحاً أن آثار التحطيم الذي يحصل لنفسية الطفل قد تبقى مدى الحياة، حيث يبقى خائفاً قلقاً متوقعاً للهجوم الجديد، ما يؤدي إلى الانسحاب الاجتماعي، إضافة إلى مشكلات كثيرة جداً على مستوى الأهل ومستوى الوصمة النفسية لهذا الطفل الذي يتمنى أن يمحوها لكنه لا يستطيع، مضيفاً: طالما بقيت العادات والتقاليد سيّدة الموقف في مجتمعاتنا الشرقية فحكماً لن يتجرأ الأهل على عرض حوادث تعرّض أطفالهم للتحرش، رغم أن منصات التواصل تكاد لا تخلو بين الفينة والأخرى من هكذا قصص، وقد نجد شخصاً تعرّض ابنه لتحرش اكتفى بالكتمان خشية العار، وآخر لازال يعاني ألماً نفسياً وعزلة اجتماعية سبّبه له تعرّضه في صغره لموقف مشابه للمثال الأول، وهناك من خرج من عباءة العادات وفضّل صحة طفله الجسدية والنفسية على الفضيحة واقتصّ من الجاني لدى الجهات المعنية، ولعلّ هذا ما يجب أن تعمل عليه كل الجهات صاحبة العلاقة من خلال التوعية.

دون الثامنة عشرة

ولو نظرنا إلى الجريمة من الناحية القانونية، فقد بيّنت الأستاذة فدوى الصفدي رئيس محكمة جنايات الأحداث بدمشق والقنيطرة، أن القانون السوري نظر إلى الاعتداء على الأطفال بأنه أي شكل من أشكال العنف كافةً وخاصةً الإساءة البدنية أو المعنوية أو الجنسية أو الأخلاقية، وغير ذلك من أشكال الإساءة في المعاملة والاستغلال الاقتصادي، أو في أداء أي عمل يمكن أن يكون خطيراً أو يكون ضاراً بصحة الطفل وإهماله وتشريده وكافة الممارسات الخطرة.

عقوبات مشددة

وعن كيفية تعامل القانون مع الاعتداء الجنسي على الأطفال توضح الأستاذة الصفدي أن القانون نصّ على عقوبات مشدّدة بحق كل من ارتكب جرائم الاعتداء الجنسي على الأطفال بأي صورة كانت، سواء قولاً “توجيه عبارات منافية للحياء” أو فعلاً “ملامسة” أو أي فعل يلحق بالطفل عاراً أو يؤذيه في عفته وكرامته.

سويّة واحدة

ورداً على تساؤل يشغل بال الكثيرين ويتمّ تناقله بكثرة على الفضاء الأزرق بخصوص كيفية التعامل مع كلّ قضايا الاعتداء على الأطفال ومدى تأثير السوشيال ميديا كعامل ضغط قد يغيّر مجرى التحقيق، بينت الأستاذة الصفدي أن القضاء السوري نزيه ويتعامل مع قضايا الاعتداء على الأطفال بالسوية والآلية نفسها، ويبني أحكامه بناءً على مواد قانونية صريحة وواضحة ومنصفة بدءاً من الشكوى، فتنظيم الضبط فالنيابة العامة فالتحقيق، وصولاً للإحالة إلى المحكمة المختصة، مشيرة إلى أن تأثير مواقع التواصل الاجتماعي ينحصر فقط في بعض الحالات الخاصة من ناحية تسريع الإجراءات السابقة، أي لا يمكنها أن تؤثر على قرار القضاء المختص الذي يصدر حكمه في جريمة الاعتداء على الطفل بناءً على القانون وليس تحت ضغط الرأي العام، ولكن هناك بعض جرائم الاعتداء على الأطفال تكون من البشاعة بحيث يمكن للسوشيال ميديا أن تعرضها كقضية رأي عام، غير أن هذا لا يعني تشدّد أو تساهل القضاء المختص في هذه القضية تماشياً وإرضاءً للرأي العام.

أسباب مخففة

أما ما يخصّ وجود أسباب مخففة عن الجناة في قضايا الاعتداء على الأطفال، فقد نوهت الصفدي بأن القانون شدّد على جرائم الاعتداء على الأطفال أكثر من الجرائم الواقعة على البالغين وذلك في الأخذ بالحدّ الأعلى للعقوبة، وأن هناك بعض القضايا يؤخذ فيها بالأسباب المخففة مثال إسقاط الحق الشخصي، أو في بعض الحالات المرضية العقلية التي تثبت من خلال الخبرة الطبية أن الجاني لم يكن بقواه العقلية حين ارتكاب جرم الاعتداء على الطفل.

لا إحصائيات دقيقة

وعن الإحصائيات المنظورة أمام القضاء حول ما يخصّ قضايا الاعتداء على الأطفال، ذكرت الصفدي أنه لا يوجد لدينا إحصاء دقيق لحالات الاعتداء على الأطفال، لافتةً إلى أن هذه الإحصاءات تتطلّب جمع المعلومات من جميع المحاكم المختصة في القطر، معربةً عن أملها بأن نصل لهذه الإحصاءات قريباً من خلال التوجه الحالي لوزارة العدل بالأرشفة الإلكترونية ليصار إلى وجود بنك معلومات يحوي جميع هذه الإحصاءات، ومن خلال الممارسة القضائية.

ووفق ما ذكرت الصفدي فإن الحرب أدّت إلى حالات من التفكك الأسري وتشرد الأطفال ووجودهم بدون حماية أسرية سهّلت على الجاني استغلال الأطفال والاعتداء عليهم.

مسؤولية متكاملة

للأسف لا تزال أغلبية الأسر ترى أن الحديث في أمور التربية الجنسية مع الأولاد أمراً من المحرمات، ربما نلتمس لهم عذراً نظراً للقصور في إعداد البرامج والحملات التوعوية التثقيفية من قبل وسائل الإعلام والجمعيات ذات الشأن حول موضوع التربية الجنسية، ووفق رأي المختصين فإن على المؤسسات التربوية ووسائل الإعلام والمنظمات ضرورة القيام بدورها عبر التثقيف على كافة المستويات العمرية وليس فقط للأطفال وخاصة نشر الثقافة الجنسية الصحيحة وإزالة الأوهام “المعشّشة” في رؤوس الأهل بأن الحديث عن الجنس أمام الأطفال معيب ويخدش الحياء، بل يجب توعية أطفالهم عبر غرس الصراحة المطلقة وكسر الحواجز بينهم، كي يعتاد الطفل على مصارحة أهله بكلّ صغيرة وكبيرة عن حياته الشخصية، ولكي يعرّف الأهل أبناءهم كيفية التعامل مع مثل هكذا مواقف وشرح معنى الاعتداء وما هي آثاره مستقبلاً، مع التشديد على عدم التكتّم على موضوع الاعتداء خشية العار والفضيحة، وفق ما يعتقد الأهل.

ليندا تلي