ثقافةصحيفة البعث

“الإنسانية” مفهوم عقلي أم حصيلة تناغم بين العقل والجسد؟

سامر خالد منصور

هل الإنسانية تُكتسب بالولادة؟ أم هي درجة يبلغها الإنسان كما تقول حضارات في مشارق الأرض ومغاربها منذ القِدم كحضارة شعب المايا والحضارة الهندية على سبيل المثال؟

هل الإنسانية ولادة عضوية أم ولادة عقلية بمعنى بلوغ درجة أعلى من الوعي والتحرر من الاقتصار على أنماط التفكير البدائية اللصيقة بالجسد؟

إنسان الغابة أو “ماوكلي” كما يسميه البعض.. في حكايته الشهيرة لم يتعد حدود كونه حيواناً في الغابة حين نشأ وترعرع هناك بمعزلٍ عن البشر تماماً، وهو لم ينجح في التأقلم مع حياة البشر في تلك الحكاية وعاد إلى عشيرة الذئاب التي ربته.

إن كان العقل هو ما يميز الإنسان عن الحيوان، فهل مجرد امتلاك العقل كافٍ لنطلق على الإنسان صفة الإنسان ونعطيه كافة الحقوق الإنسانية؟ أم أن تفعيل العقل هو الأساس؟ فكم من فئة من الناس مارست أقبح أشكال الوحشية والدموية والتخريب؟!

أليس للمجانين عقول؟ لكنها ليست فعالة ليكونوا بمستوى إنساني وهذا يسقط عنهم الكثير من الميزات التي تصونها القوانين في الحياة الاجتماعية.. هل العقل عضو تالف عندما يصيب الدماغ عطب في إحدى أجزائه المرتبطة بعمليات التفكير أم أنه يمكن أن يكون عضواً تالفاً ليس بذاته بل بمفاعيله، بمعنى عندما يُنتج الأوهام ويتبناها أكثر من الحقائق؟ فيضمحل بذلك إلى درجة العقول الحيوانية من حيث الوحشية الدموية بل ويقود صاحبه إلى المشكلات.. ولا يمارس فيما عدا ذلك إلا دونكيشوتية أو أوديبية طاغية أو سيكوباتية مفرطة.. إلخ.

وُصِفت النازية التي تقوم على “وهم تفوق العرق الآري” بأنها وصلت بمن اعتنقها وتعصب لها، إلى “الذهان” الذي أصاب مجتمعاً بأكمله.

وتحدث مئات ملايين البشر عبر الأزمنة عن ظواهر خارقة لأشخاص كانوا ينظرون إليهم على أنهم آلهة أو على صلة بقوى ماورائية كالفراعنة وأباطرة اليابان الذين كانوا يعتبرون حتى نهاية الحرب العالمية الثانية آلهة وغيرهم الكثير، وإلى اليوم هناك مئات الأديان الوضعية التي تحدد سلوك وتوجهات مئات الملايين من البشر وفق إرادة ومنظور ذلك الميتافيزيقي المزعوم.

يقابل الحروب العالمية والمجازر الجماعية العنف المقنن في عالم الحيوان، ويقابل عجز نسبة كبيرة من البشر عن تأمين سكن مستقل وإنشاء أسرة بمجرد بلوغ سن الرشد.. يقابل ذلك قدرة جميع كائنات الوكب تقريباً على النجاح في هذا بنسب ممتازة بمجرد وصولها لمرحلة البلوغ الجنسي، فكيف يشقى الإنسان ويعجز رغم امتلاكه للعقل وللعلوم وتطبيقاتها ومنتجاتها؟!

هذا يقود إلى كون العقل هو الطريق والعبقة في آنٍ معاً.. عبر الأدلجة ونشر الوعي الزائف من قبل فئات تريد تسخير عموم الناس حولها كدواجن بشرية، وكما أن الخراف عندما تنطلق في المرعى تحسب أنها حرة لمجرد أن نطاق حركتها يتيح لها الوصول إلى كل حاجاتها الأساسية، كذلك معظم الشعوب في العصور الوسطى.. لكن بمجرد أن تحاول الارتقاء والتفكر والتدبر والتصرف والتواصل والتعبير بحرية غير محدودة، حتى تصطدم بكلاب الراعي أو بعصاه.

هل استحكام الوعي الزائف المترافق مع سلوكيات عنفيّة يبعد الإنسان عن إنسانيته حد خفضه إلى درجة الوجود الحيواني الوحشي والعبثي في وحشيته؟.

وبالعودة للحديث عن علاقة الجسد بالعقل، أين يحدث الخلل تحديداً الذي يتسبب بنكوص الإنسان؟ ويجعله الحيوان الثدي الوحيد الذي يقتل من أبناء جنسه أكثر مما تقتل جميع الثدييات الأخرى مجتمعة؟ إن كانت مهمة العقل أن يحمي الجسد ويؤمن متطلباته، فما الذي يجعل الذهنية الجمعية السائدة في مجتمع ما تقود عشرات آلاف الأجساد البشرية إلى المقابر والهلاك، كما هو الحال في العديد من الحروب الدينية والأيديولوجية التي لا طائل منها للعامة من أبناء تلك الشعوب، ولماذا لا تؤدي علاقة العقل والجسد إلى حروب طاحنة وإبادات ومجازر جماعية لدى بقية الحيوانات؟

ما موقف الفلسفة وعلم الاجتماع من هذه التساؤلات؟ لعلنا نجد الإجابات الأوفى فيما قاله شوبنهاور عن كون العالَم إرادة وفكرة..