الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ما يكتبه.. أسرانا!

حسن حميد

كنتُ، ولم أزل، على يقيني بأنّ فن السيرة، هو من أهم أجناس الأدب، سواء أكانت السيرة ذاتية يكتبها صاحبها، أو سيرة غيرية يكتبها غيره، ذلك لأنّ السيرة هي المشيمة الأصل لكلّ أجناس الأدب التي تذهب إليها النفوس كيما ترتوي من معانيها وأحداثها وروح الأمكنة التي تجول فيها.

وإذا كان فن السيرة مهمّاً وذا خطورة فنية في جميع أنحاء الدنيا، فإنه فن مهمّ وذو خطورة فنية شديدة الخصوبة والغنى في بلادنا الفلسطينية العزيزة، ذلك لأنّ الرواية الفلسطينية، أو قل السردية الفلسطينية، وما يؤمن به الفلسطينيون، صغاراً وكباراً، من قناعات وتواريخ وأحداث وحادثات، إنما تعود مرجعيته إلى السيرة، حتى لتبدو حياة الفلسطينيين كلّها مركوزة على السيرة، سيرة المكان وما طالته اليد الإسرائيلية الآثمة من تغييرات، وتحويرات، وهدم، وقضم للبيوت في القرى والمدن والمخيمات، وإقصاء للغابات والضفاف والشطوط، ومحو للطرقات والتلال والحقول، وإغلاق للأسواق والجهات والمؤسّسات، وتخريب للتكايا، والزوايا والمدارس والمراكز التعليمية، وتهويد للأسماء والأمكنة، وردم للينابيع والغدران والأقنية، وتجفيف للبحيرات، والسواقي.. إلخ، كلّ هذا لا يمكن الإحاطة به إلا من خلال فن السيرة المروية، والمتناقلة من ذات إلى ذات، ومن صدر إلى صدر، ومن بيت إلى بيت، ومن جهة مكانية إلى جهة مكانية أخرى، فعبر السردية الفلسطينية المحمولة على كفّ السيرة نواجه سيرة العدو الإسرائيلي الذي يعمل جاهداً للترويج لها في كلّ مكان وحينٍ ومنبر.

وتبدو خطورة فن السيرة بنوعيها: الذاتي والغيري، من خلال ما نطلع عليه من كتابات وحكايات، باتت اليوم مسطورة، بعد أن كانت مشفوهة، يكتبها اليوم أسرانا البواسل في جميع المعتقلات والسجون الإسرائيلية، لأنهم بكتابة السيرة الذاتية والغيرية معاً يكتبون صلف هذا العدو العنصري المتوحش الذي يريد أن يجعل من سجونه ومعتقلاته هاديساً إسرائيلياً، لا يدخلها أو يعيش فيها سوى من اختار (طريق الموت)، وطريق الموت في عرف الإسرائيلي هو الطريق الذي يمشي فيه الفلسطينيون المقاومون من أجل اقتلاع الإسرائيلي من الأرض الفلسطينية، وتفكيك روايته، وبيان زيفها وكذبها، وافتقارها إلى أيّ شكل من أشكال المصداقية، وهذا الطريق (الذي يسميه الإسرائيلي بطريق الموت) هو الطريق الأقصر إلى دحر الاحتلال وجعله في عداد المنسيات هو وثقافة الاحتلال، شأنه في ذلك شأن الاحتلالات التي عرفتها البشرية، لأنّ لا خاتمة منطقية للاحتلال سوى هزيمته وكنس آثاره.

ما يكتبه أسرانا في معتقلاتهم هو أمر مذهل وخارقي بكلّ المقاييس، فهو اجتراح لمعجزة اسمها معجزة الحياة داخل (الهاديس الإسرائيلي)، ومن بعد الحديث عن هذه الحياة المغموسة بالآلام والدماء والقهر والأمراض والقلق والأسئلة، والأهم والمُنار، هو أنّ الأمل يطفح من هذه الكتابة، وأنّ العافية الوطنية تشعّ منها، وأنّ الخلاص من عنصرية الاحتلال والتحرّر من قيوده، وعشق الحرية، والقناعة بصوابية الدرب والفعل معاً، هي المعاني الأكثر تردداً وجولاناً بين الصفحات التي كتبها، ويكتبها أسرانا بحبر الجبروت الفلسطيني، والصبر الخرافي رغم كلّ الجروح والتنكيل والعزل الانفرادي والسعي الوحشي لقتل النفوس وتدميرها، والأخطر (بالمعنى الإيجابي) الذي يجعل أفعال الأسرى الكتابية فذاذة نادرة، هي أنهم يكتبون بعد أن صدرت بحقّهم أحكام بسجنهم مدى الحياة، فقد ظنّ الإسرائيلي بأنّ مثل هذه الأحكام ستقضي على عزيمة الأسير وتدمّره، بل إنّ بعضهم حكم بأكثر من مؤبد واحد، ومدة المؤبد الإسرائيلي الواحد هي 99 سنة، ظناً منه بأنّ الفلسطيني سيعيش أكثر من 99 سنة، وإن عاشها وخرج سيعود مرّة أخرى إلى مواجهته ودحض سرديته وكشف ما فيها زيف وكذب وتلفيق!.

فن السيرة الذاتية والغيرية، مهمّ في جغرافيات العالم كلّها، ولكنه أكثر أهمية في بلادنا الفلسطينية العزيزة لأنه يؤرّخ لعنصرية الاحتلال الإسرائيلي، وتوحّشه وتعطشه للدماء والبطش، مثلما يؤرّخ لأفعال الفلسطينيين الذين يتوارثون عشق البلاد والدفاع عنها جيلاً بعد جيل، ولهذا فإنّه الفن الأدبي الأكثر جمالاً ووضوحاً كونه يوطّد أركان السّردية الفلسطينية بالشواهد والوقائع الحيّة وهي تتحدّث عن المكان والتاريخ والاجتماع والمواجهات المستمرة مع عدو شرس، منذ مئة عام وأزيد.. من أن أجل تصفو الحياة، وتسطع شمس الحقّ!!.

Hasanhamid55@yahoo.com