ثقافةصحيفة البعث

جمالية فن الخاطرة في “أوراق من وجع الغربة”

عبيـر منون

كانت إسقاطات الأزمة السورية التي ضربت عمق المجتمع السوري واضحة في أعمال الأدباء السوريين، منهم من كتب الرواية ومنهم من نظم الشعر ومنهم من كتب القصة ومنهم من كتب الخاطرة، ومن بين الذين أثرت بهم الأزمة وإن على بعد من ديار الاغتراب، وكتبوا عنها وعن وجعها، الكاتب الصحفي سعد الله بركات الذي صدر له كتاب بعنوان “أوراق من وجع الغربة”، عام 2022، عن دار المقتبس بيروت ودمشق.

والمنجز الذي قدّم له الدكتور جورج جبور بقوله “لدى قراءتي أوراق سعد الله، وجدتها تنبض بنفحات وجدانية، تقارب الحس الشعري…”، يطالعنا على مدى 95 صفحة من القطع العادي بمجموعة من الخواطر الأدبية، صاغها بطريقة لطيفة ودودة، والخاطرة كما نعلم هي نوع من أنواع الفنون الأدبية الصعبة لأنها تكتب على شكل لمحات طارئة وليدة اللحظة، ولكن العمل الذي خطته أنامل الكاتب بركات لم يكن عملاً عادياً، بل كان عبارة عن حكايات وذكريات نسجته المفردات والمنمقات البديعية، كعقد من اللؤلؤ حباته ارتبطت ببعضها البعض فكونت عملاً فنياً جميلاً.

الخواطر الأدبية في كتاب بركات هي محطات في حياته وذكرياته، قبل وخلال اغترابه، ومن اليوم الأول حين غادر الكاتب البلاد تاركاً فيها قلبه، بدأت روائح الحب ولواعج الشوق لوطنه تظهر ابتداءً من زياراته قبل اغترابه.

صبّ بركات حنينه في سطور صفحاته الأولى ليعبّر عن مدى لوعته واشتياقه لقرية صدد مسقط رأسه، وفي المضي بين سطور خواطره الشعرية سنلحظ الاحتفاء الواضح ببلدات وقرى محافظة حمص بـ”درغلات” نثرية لطيفة، يوضح مدى حبه لكافة بقاع الأراضي السورية وليس بلدته صدد فحسب، فعانق الشاعر تراب الأرض محبة ولهفة بقوله:

ما جئت إليكم لأقلب مواجع بل جئت لأحييكم

لأحي أهل زيدل وفيروزة

أهل الشعيرات والبيضا.. كما الحميرة ودير عطية

يا فيروزة العز في تاج شامها

يادرة حمصها العدية..

والعبارات أرادها عربون وفاء لهؤلاء الذين وقفوا مع أهالي صدد يوم اجتاحها الإرهابيون، خصّص لها ورقة تفيض بالتعبير الدلالي تحت عنوان “حكاية صدد حكاية وطن”، تضمنت الوريقات ذكريات بركات في دمشق التي احتضنته أيام الدراسة، وتعرّف فيها على أصدقائه وشريكة عمره وعاش فيها أحلى أيام نجاحاته وهو يشرب من ماء بردى. وللوهلة الأولى تشعر، وأنت تقرأها، أن الكاتب يذرف الدموع وهو يكتب ما كتب من ذكريات ولحظات فراق الوطن وفراق والدته التسعينية لتغدو غصّة في قلبه الذي كان يشعر باضمحلال اللقاء معها مرة ثانية، ثم ينتقل قي صفحاته التالية ليأخذنا معه إلى عالم التمنيات وهو يصف بعضاً من جوانب الحياة والخدمات، ويحلم أن تكون قرى وطنه مثلها، ليقول: “هي بدأت ولكن…؟”، مايشعره بالحقد والغضب على من كان سبباً في الحرب والدمار.

طغى الحب والعشق لأرض صدد على مفردات العمل الأدبي، تخلّلها بعض الحوادث المميزة التي أطربت قلب الكاتب، فكان لقاءه ومن دون سابق معرفة أو تواصل بـ مريم، ابنة عمه الأخ غير الشقيق لأبيه، التي لم يلتقها في بلاده فتكون رئة الخواطر التي نظمها في هذه الأوراق، ليطرب لها قلب الكاتب وزوجته التي تعاني معه الغربة.

عاش الكاتب في غربته، بألم مضاعف لحظات فراق أحبة وأصدقاء “بلا وداع رحلوا”، وكانوا مثله من رواد حاملي همّ الوطن بين ضلوعهم، وسكن الحزن قلب سعد الله عندما سمع بوفاة صديقه الصحفي، علي الصيوان، بعد أن قرأ له آخر مقالة في مطلع عام 2016، فعاجله القدر قبل أن يتحقق حلمه القومي الذي نذر له نفسه يوماً.

وهذه الذكريات المؤلمة، التي عاشها بركات وهو في غربته، تشابه في مواضيعها وصياغتها ما كتبه الكاتب الكبير جبران خليل جبران الذي قال في إحدى مؤلفاته: ما زلت أؤمن أن الإنسان لا يموت دفعة واحدة وإنما يموت بطريقة الأجزاء، كلما رحل صديق مات جزء، وكلما غادرنا حبيب مات جزء، وكلما قُتل حلم من أحلامنا مات جزء، فيأتي الموت الأكبر ليجد كل الأجزاء ميتة فيحملها ويرحل.

وهذا النوع الأدبي يحتاج أن يتحلّى الكاتب بقوة الملاحظة، ويقظة الوجدان، وهو يتماشى مع الطابع الصحفي العام، في الاهتمام بتفاصيل الأمور الصغيرة، وهذا ما لمسته في تفاصيل بسيطة حقيقة كانت دعامة العمل الأدبي وجماليته.

الخاطرة بين أنامل بركات هي حكاية جميلة صدحت بمشاعر وأحاسيس صاحبها، ومن جميل ما قرأت في هذا العمل هو سرد تفاصيل عودته إلى أرض الوطن، وفرحه وهو يتنفس من هواء البلد، عندما قال: “عتمة الليل تتراجع في داخلنا، قبل أن تفسح للنهار نشر ضيائه على الشام، والشمس تعاود قبلاتها الصباحية لذرى قاسيون فيزداد اختيالاً. مع ضوء الفجر اجتزنا الحدود، تنفسنا الصعداء، انتعشت النفس، دخلنا الربوع، وربوع الشام على موعد مع فجر نصر يتعمق ويتعزز”.

رغم فرحه بلقاء الأحبة عند زيارته للبلد، استوطن الحزن قلبه من جديد عندما راح يسمع حكايا المآسي التي عاشتها البلدة من الإرهابيين، ومن ظروف حياة قاسية نتيجة الحرب الكونية على البلاد.

خواطر أدبية عذبة فاتنة في فكرتها تتسلق بوريقاتها شغاف القلب وتلامس في تفاصيلها شعاب الروح لتتجلى فيها المصداقية “كانت تنساب عفو الخاطر” كما أشار لتعرّف بذلك عن جمالية فن الخاطرة بكونه فناً يختلف عن الشعر بأسلوبه وبنائه.