استغلال عامل الزمن.. وغيره للتخريب
د. عبد اللطيف عمران
لم يعد المواطن العربي يثق بمركزية الغرب، ولا بخطابه، نظراً لتتابع ازدواجية المعايير، والحضور القوي للعامل الإسرائيلي في سياساته، وإذا طال الزمن أمام انتفاضة الشعب العربي في كافة البلدان ضد هذه السياسات، فهذا لا يعني غياب الوعي والحافز والهوية والانتماء في الوجدان، فالارتهان للخارج مرحلة مؤقتة، وسرعان ما تتحرك إرادة قوى الشعب الحية للدفاع عن الكرامة والمصالح الوطنية والحقوق.
– واليوم يدرك العروبيون -وهم الأكثر والأقوى- أبعاد اللعب الخارجي على عامل الزمن في أي قضية عربية، واستغلال ذلك لزرع مزيد من عوامل الفرقة والانقسام الداخلي، فبعد تحرير الكويت -مثالاً- مضى زمن طويل حتى احتلال العراق، تم خلاله تخريب الوضع العربي، وما نجم عن ذلك من تخريب الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية والروحية العربية. وكان سهلاً على قوات التحالف اختصار الزمن بين تحرير الكويت واحتلال العراق، لكن استغلال التراخي في الزمن سياسة مدروسة بدقة، أثمرت مشاكل عديدة في جميع مناطق الخليج العربي، ووطّدت الحضور الأجنبي، ومصلحة إسرائيل.
– وكذلك تدخل محادثات السلام عقدها الثالث، ولم تحقق أي نجاح فيما بُنيت عليه من أسس -قرارات الشرعية الدولية- وما تحقق جراءها خلال عشرين عاماً مزيد من الخلاف، وتقدّم المشروع الصهيوني، وتعثّر المشروع القومي العربي، ونقل حالة الصراع العربي الصهيوني الى خلاف عربي عربي.. وفلسطيني فلسطيني..
– ومنذ مطلع هذا القرن، ومع رسوخ فعل المقاومة الوطنية، بدأ لون آخر جديد من التآمر على لبنان وعروبته، ووحدته أرضاً وشعباً، بدأت ملامحه تتكشف مع أواخر 2003، وكانت جريمة اغتيال الحريري مثالاً للاستثمار البشع للتدخل الأجنبي، وبدأت منذ ست سنوات تتوالى مظاهر عديدة لجعل لبنان بؤرة للتشرذم والانقسام الوطني والإقليمي، وعملت المركزية الغربية على استغلال جريمة الاغتيال خطوة خطوة، وسنة بعد سنة إمعاناً في إضعاف لبنان الوطن والهوية والمقاومة الوطنية، وكأنّ الغرب هو الأحرص على حقوق الأفراد والجماعات والأوطان، وكأنّ فلسطين الشهداء والأرض والحقوق ليست بجوار لبنان، فانتقل لبنان من مركز إشعاع وطني وعربي، وموطن حوار فاعل للثقافة والحوار الوطني والعروبي، الى قوى مجزّأة سياسياً واجتماعياً وروحياً.. وتم خلال هذه السنوات استغلال الزمن للتدرّج في توظيف مراحل التحقيق في جريمة الاغتيال، تدرّجاً يأخذ بالحسبان تتالي الأزمات وتوالدها، وتكاثرها، وانتشارها برعاية غربية إسرائيلية، لا مصلحة، ولا حق فيها لأي عروبي، وصارت المحكمة، مع مضي الزمن ومع ما هو قادم، مشجب شر مستطير، لاشك في أنه سيستخدم زمناً طويلاً لهلهلة الوضع العربي الرسمي والشعبي، فمن المستفيد؟ بعد أن تأكد أن جريمة الاغتيال والمحكمة هما الوسيلة، وليست الحقيقةُ الغايةَ، ومع زمن التحقيق ستوزع الاتهامات، ومن مختلف الأنواع، في مختلف الاتجاهات، باستثناء إسرائيل، مما سيفرض نزعة عقلانية في النظر الى الواقع عبّر عنها الرئيس الأسد تعبيراً منطقياً «لا نقبل أي اتهام دون دليل، سواء من المحكمة، أو من غيرها».
– وكذلك الأمر مع السودان، فمع مطلع هذا القرن تدخل أفريقيا لتصبح منطقة نفوذ ومصالح، ويحضر السودان الدولة الأهم، وتمضي السنون بالتدرج وصولاً الى الضغوط والعقوبات.. والتسليم بالتقسيم بين الشمال والجنوب مرحلة أولى، وبرعاية أمريكية مباشرة، لقطف ثمار العقوبات تجزئة وتدخلاً، ومع المرحلة الأولى من التقسيم، يُقتل في هذا الأسبوع العشرات في نزاع بين قبيلتي المسيرية والدنكا في الجنوب، وآخرون من رجال القبائل على الحدود بين الشمال والجنوب، ما يؤكد أنه سيأتي زمن قريب يكون فيه كل من الشمال والجنوب مهدداً بأزمات داخلية تستدعي تدخلاً خارجياً يهدد حوض النيل بأكمله.
ومع مرور الزمن تظهر الإدارة الأمريكية موضوعيةً، واليمين هو الكونغرس بسيطرة الجمهوريين والليكوديين. ونتنياهو كذلك، واليمين هو ليبرمان. والأنظمة التي تتهاون في استقلال القرار العربي تبدو موضوعية لأنها ظنّت بأن إرضاء قوى الهيمنة والتدخل يكفل لها الأمل والطمأنينة، واليمين هو الجماعات التي تتحرك ببرامج قيد الاستثمار.
والحال هذه، فلا بد من تجديد سريع وفاعل للمشروع القومي العربي يأخذ بالحسبان مخاطر اللعب على عامل الزمن الذي عرفت اسرائيل كيف تستغله ببراعة، تتضافر فيه مختلف الجهود لتحقيق برنامج عمل عروبي مشترك بين القوى السياسية والاجتماعية، لاستنهاض فعل القوى الحية في الوطن العربي المأزوم، لدفعه رسمياً وشعبياً الى طريق التقدم والتحرر -لا غير- بعد استخلاص الدروس مما آل إليه الوضع من شق للصفوف، وإثارة للضغائن بين القوى السياسية والاجتماعية، وتبادل الاتهامات، وتشتيت للجهود.