المشروع القومي العربي وقائـع عقـد مضى
د. عبد اللطيف عمران
يطوي التاريخ العربي المعاصر عقداً حافلاً بالمصاعب والتحديات، والتطورات السلبية على المستويات السياسية والاجتماعية والجغرافية والتاريخية..، ومع القرن الجديد يواجه المشروع القومي العربي مظاهر خطرة على مستوى الأمة، ومستوى الدولة، في أكثر من جانب، وفي أكثر من بلد عربي، ولعل أهم ما يثير هذه الطروحات ما نجم عن سقوط بغداد، واغتيال الحريري، وعدوان إسرائيل على لبنان، وعلى غزة واستمرار حصارها.
هذه الظروف فرضت متغيرات في الممارسة، وفي الوعي، تستدعي قراءة جديدة مغايرة لما كان مسلّماً به، وضرورة اقتران القراءة الجديدة بوعي وفعل مطابقين، ومن بعض هذا، وهو غير قليل، يمكن تخيّر بعض التحديات الجديدة للمشروع القومي، والتي ظهرت بوضوح في العقد الماضي.
– في الماضي القريب كان معروفاً أن العدوان أو التهديد الخارجي، أو التدخل، يستدعي حالة توتر وطني، وتحالفات داخلية تترفع عن الانقسامات والانتماءات الضيقة، فتعزز الوحدة الوطنية لمجابهة الضغط الخارجي، وأبعد من هذا وأهم، كان الشارع العربي يشهد حراكاً تضامنياً مع ما يواجهه القطر الآخر، وبما يلزم النظام الرسمي العربي بالتعاضد والتعاون، ومثال ذلك كثير في دعم ثورة الشعب الجزائري، وفي مواجهة عدوان 1956 على مصر، وفي التضامن العربي في حرب تشرين التحريرية..
واليوم صارت التحديات الخارجية، على أنواعها، تترافق بانقسامات ومعارك داخلية، تضعضع الوحدة الوطنية، ويواكب هذا انقسام وخلاف على مستوى الأمة والنظام الرسمي، بما يقوّي الخطر الخارجي، ويضعف الحالة الوطنية والقومية.
– وفيما مضى كانت مركزية الغرب الاستعماري تعمل على دعم بعض النظام الرسمي العربي، لعرقلة نموّ الشعور القومي، ولتكريس واقع التجزئة والانقسام والتخلّف، أما اليوم فقد تركت هذه المركزية مثيل هذه الأنظمة يتخبط في مشاكله الداخلية والإقليمية، وانتقلت من دعم النظام، الى دعم جماعات، وتيارات، وانتماءات غير وطنية، وأوجدت بدائل خبيثة عن التهديد الخارجي، مفيدة في هذا من ثورة المعلومات والاتصال، ومن أساليب جديدة لخلق ألوان من الاحتراب الداخلي لم تكن معهودة سابقاً، وللأسف فلكل ظاهرة من هذه الظواهر أكثر من نموذج عربي، ما يجعل المشروع القومي العربي أمام تحدٍ جديد ومغاير.
– برز في العقد الماضي متغيّر خطير تمثّل في الانتقال -عربياً- من الخلاف السياسي، والحزبي، والاقتصادي، الى الفرز الطائفي والمذهبي والعرقي، وتطور هذا الفرز الى اصطفاف، مع غياب الحرج الثقافي والسياسي والإعلامي العربي، الى أن تمت تسمية الأشياء بمسمياتها التي كانت محرّمة سابقاً، وقد دخل بعض النظام الرسمي العربي في هذا الاصطفاف، ما سهّل عملية تسييس الانتماءات الطائفية، وحضرت الى الساحة السياسية العربية أحزاب وقوى سياسية فاعلة تشكّلت على أسس كانت تسمى الى وقت قريب مريضة ورجعية، وقد أخذت هذه الانتماءات الضيقة في بعض البلدان صفة الهوية، وفرضت حضورها -بعد دماء ومجازر- في تشكيل الحياة السياسية الحزبية والحكومية، وهذا ما كان محرّماً في القرن الماضي.
– من أهم ما يواجه العمل الوطني والعربي اليوم بأبعاده السياسية والفكرية والاقتصادية تطورات عالم «ما بعد» العولمة والحداثة والاستعمار والصهيونية، وفي هذا الـ«ما بعد» تكمن أصعب التحديات وأخطرها الراهنة والمستقبلية، وعلى سبيل المثال، تجدد الليكودية السياسية للمشروع الصهيوني وفق أفق جغرافي واقتصادي وعلمي جديد يتجاوز المفهوم التلمودي، وأرض الميعاد، الى سيطرة وتدخل وجرائم إقليمية ودولية، تتنقل من أسلحة الدقة العالية، والصواريخ الالكترونية المعلوماتية، الى ضخ معلومات هائلة مغلوطة على شبكة الانترنت لتضليل الأجيال بتراثها وثقافتها وهويتها، وللعبث بالهوية والانتماء والوعي.
– وبالمقابل، ومع ضعف العلاقات البينية العربية، فقد حقق المشروع القومي العربي انتصارات عديدة في العقد الماضي وطدت في الوجدان أصالته وضرورته، تمثّل بعض ذلك فيما أنجزته المقاومة الوطنية من حضور إقليمي ودولي أدى الى بدء انسحاب قوات الاحتلال من العراق، وإلى الاعتراف بدور حزب الله وحماس وبمشروعهما وبمشروعيتهما كقوى مقاومة وطنية.
كما كان هناك صمود متعدد الأطراف في وجه مشروع الشرق الأوسط الجديد، وأمام بعض مشاريع بوش وبلير وشيراك، ولم يسجّل هذا المشروع انسحاباً من مواجهة المظاهر والمشاريع سابقة الذكر. ورغم ضعف مؤسسات العمل العربي المشترك، فقد نهضت بعض القوى السياسية والفكرية العربية بدور فاعل وطنياً وإقليمياً ودولياً، وحملت سورية القضايا العربية، والقضية المركزية مرتكزاً أساسياً في علاقاتها الإقليمية والدولية، ووطّد الرئيس الأسد حضور هذا الهدف على الساحة العربية والعالمية، ولاسيما حين خاطب الغرب بأن «تطور علاقاتنا بالاتحاد الأوروبي مرتبطة بكيفية تقديمه نفسه دولياً».
ومازال مشروعنا القومي بحاجة الى تجديد أنماط التفكير والعمل، وإلى التفاعل مع الواقع وتحولاته السريعة، ومع معطيات الحداثة والعلم، وتعزيز الهوية الوطنية والعربية على أسس علمانية أخلاقية ديمقراطية، ليكون العقد القادم أفضل.